جيمي الزاخم

في الدراما: "البطل الشعبي" في عين جمهوره "غزال"

21 نيسان 2023

02 : 01

"برافو يا بطل"... "يقبر إمّو البطل"... "هيدا واحد قبضاي، بطل"... "الشهيد البطل"... هذه العبارات قد تلاحق بعضكم من المهد إلى اللحد: عندما تنال علامة مميّزة، أو تؤدي عملاً محطّ إعجاب، في علاقاتك، حياتك المهنية، وصولاً إلى موتك... قد تكون بطلاً. صفة يُطلقها المحيط على شخصٍ ذي صفات استثنائية. تقارب الشخص، تضخّمه أو تزيّفه. يجمع "المجدَ" من أطرافه، حتى لو كانت الأطراف إصطناعية.

هذا "المجد" في الدراما والسينما أُعطي للكثيرين. بعضهم ارتدى ثوب البطل "القبضاي" بكرامته وشهامته. أشهرهم "أبو عبد البيروتي" (الراحل أحمد خليفة). شخصيةٌ من حارات بيروت وشوارعها في ذاك الزمان. لكن زمرة دم القبضاي سلبية أيضاً، كفيلم "غارو" (بطولة ويليام حسواني 1965): أرمنيٌّ لبناني تجبره الظروف على تهريب المخدّرات. يسخّر قوّته للدفاع عن الآخرين. ينتهي أمره في قبضة القوى الأمنية. مصير كهذا نادر في الأعمال الجماهيرية.

فالبطل خارق، خارج عن القانون. لا تمسّه عدالة أو عدوّ. هو الأذكى، الأكرم، الأقوى. يظلم لأنّه ظُلم. يغلب الموت الذي يجاوره دائماً. يراه المشاهدون متنفّساً لأزماتهم، بديلاً عنهم. ينجون معه وبه. يهربون إلى فضاء الشخصية للابتعاد من عقدهم، عجزهم وخوفهم. فيُشبع الحاجات العاطفية لجمهور يتعلّق به. يريده منتصراً دائماً، وإلّا تحلّ اللعنة. هذا ما حصل عام 1958 مع فيلم "السلطان" الذي انتهى بوفاة بطله فريد شوقي. حطّم الجمهور كراسي الصالة. ولو كان بطلهم مجرماً خارجاً عن القانون، إنّ قانون عاطفتهم يُبقيه حيّاً. ترسّخت باكراً صورة شوقي كَـ"فتوة" بملامحه وبنيته الجسدية، فاكتسب صفة "البطل الشعبي". هذه الشخصيات يتمثّل بها الجمهور، بطريقة المشي، نبرة الصوت، الكلمات، حتّى بقصة الشعر، فيقلّدها. في مصر عام 1990، حلاقة الجزء الأسفل من الرأس مع إبقاء القسم الأعلى منه مجعّداً: قصة شعر موحّدة اجتاحت الرؤوس. ترجمت تعلّقاً اجتاح قلوب جمهور معجب بأحمد زكي في فيلمه "الكابوريا". ظاهرة تكرّرت مرّات ومرّات. أبرزها في السنوات الأخيرة كان مع محمد رمضان عند عرض مسلسل "الأسطورة". البطل الشعبي مع رمضان وغيره من الممثلين أترابه، قُدّم بصورة المصريّ "البلطجي" (المسيطر، العنيف). أمّا في الدراما اللبنانية المعاصرة، فالبطل الشعبي بقي خجولاً. لا يخرج كثيراً من فانوسه السحري. (لن نخوض في الأسباب، وما أكثرها!). حتى في الأعمال التي تناولت حقبات مختلفة من التاريخ، الأعمال عن أبطال شعبيين بقيت مفاتيح قبورها صدئة.

هذه النوعية من الأبطال تسير في شرايين الدراما المشتركة. هنا بطلٌ يغيث الفقراء، ينسج حريره في شرنقة الدم. كاريزما إجتماعية تغسل عيوبه في أحياء يلاعبها على كفّه. الأبرز هو "جبل" (تيم حسن). انتقل من تراب "الهيبة" ومشى مع الزمن على ضفاف نهر العاصي، وصولاً إلى حمص بحكاية سورية من إنتاج شركة "الصبّاح". هنا، هو "العاصي". فالاسم يرافق ويوافق الأبعاد الجسدية، النفسية والإجتماعية. في "الهيبة"، ورث زعامة يحافظ عليها بكلّ الأساليب. أمّا في "الزند" "عاصي" يجدّل زعامته على خاصرته على مدار الحلقات بانتقام، مقايضة، سطو، زغرودة، معركة... لتتشكّل أحداثٌ درامية متتالية تنتج ردود فعل تؤجّج الصراع. صراع أفقيّ ضدّ أفكار، ضدّ أفراد يتقاذفون الطابة الدرامية، كلاعب الـping pong، مع تضخيم وتعظيم لتمييز السيرة.




البطل الشعبي يمسك الموت دائماً بين يديه ويركله بعيداً

الدراما المصرية رسّخت صورة البطل "البلطجي"

"أبو العبد" قبضاي لبنان الكوميديّ



هذه السيرة تأتي من أجواء حكايا قدّمتها سوريا مراراً عن أبطالٍ شعبيين، على سبيل المثال: "عكاش" (جمال سليمان) في مسلسل"الثريّا": جندي في الجيش العثماني، تحوّل إلى قاطع طريق، يساعد الفقراء والفلاحين- "نصار ابن عريبي" (بسام كوسا) في مسلسل "الخوالي". إبن حيّ الشاغور، في الحلقات الأولى بُنيت شخصيته بصفات مقبولة، ليتحوّل لاحقاً إلى بطل خارق تسانده مجموعة قليلة من الثوّار ضدّ العثمانيين. يلتفّ حبل المشنقة حول عنقه، لكنّه يمسك الموت بيديه ويركله بعيداً. ككثير من الأبطال الشعبيين في المسلسلات، القدر يحرسهم ورضى أمّهم يكلّلهم!

هذا الجانب العاطفي مع الأسرة، الزوجة، الحبيبة، العشيقة يذبل أو يلمع. تُبنى خطوطه لتكوين حاجة البطل العاطفية بالتوازي مع حاجات القتل، الانتقام... ففي الدراما، لا شخصية بلا حاجة وأهداف. أحياناً، المبالغة بكيفيّة تحقيق هذه الأهداف تحوّل البطل الشعبي إلى شخصية خرافية مع "طاقية إخفاء". فيخرج دون عيوب أو بعيوب من درجة ثانية. هكذا تُكسر مصداقية الشخصية، ويتخلخل ترابط قيمها وسماتها. أمّا إذا تكاتفت هذه الحاجات مع دوافع الشخصية وسيكولوجيتها المظهّرة بطريقة الكلام، حركة الجسد، نبرة الصوت، لا تتحوّل الأحداث والحوارات إلى مواقف كرتونية. عندها يتحقّق ما قاله هرقليطس: "إن شخصية المرء هي مصيره". هذا المصير يعايشه الجمهور في حياة الشخصية الخارجية (أي الظاهرة على الشاشة). يلمسها، يشتمّ عطرها. عطرٌ بروائح متناقضة. هذه التناقضات تنمّي الشخصية لتنتج عصير توت درامي أصليّ، غير مصبوغ أو مغشوش. يستلذّ به الجمهور ويشربه مع بطل غير نيء. بطل يخترع التعويذة. قد لا تنجح أحياناً. لكنّه إذا أتقنها سيؤمن الجمهور به، حتى لو كان متلبّساً روح شيطان.


MISS 3