عيسى مخلوف

جرائم مروّعة في قلب الطبيعة الرائعة

13 أيار 2023

02 : 01

الحمار الوحشي بخطوطه السوداء والبيضاء التي تمثّل رداءً طبيعيّاً مدهشاً، يختنق بين أنياب الأسد الذي يسحقه ويغلق عليه مجاري التنفُّس، وبتلك الأنياب يكشط جلده أحياناً كأنه يعرّيه من ثوبه الجميل. هذه الكلمات ليست وصفاً متخيَّلاً بل هي لقْطَة واحدة من لقطات لا تحصى لأفلام وثائقية وتحقيقات مصوّرة في قلب الغابات والبراري، تنقل إلينا عبر الصوت والصورة عالم الحيوانات في جوانبه المسالمة والمفترسة.

الأسد يمتلك أدوات الرصد والهجوم، ومن ضمنها الحيلة والمناورة، ويستطيع أن يحدّد مكان غَنيمته وإن كانت على بُعد كيلومتر ونصف. كذلك الأمر بالنسبة إلى بقيّة الحيوانات الضارية والطيور الكاسرة التي تنقَضّ على فرائسها. أمّا الميل إلى القتل داخل الأنواع فهو ليس حكراً على البشر وحدهم، بل تتقاسمه معهم نسبة كبيرة من الثدييات، والأكثر عنفاً بينها، بحسب العلم، هي المجموعة التي ينتمي إليها أسلاف الإنسان.

طوال ألوف السنين، لم يعرف الإنسان طبيعة الكائنات التي يعيش معها على أرض واحدة. لكن، في العقود الأخيرة، بدأت النظرة إلى الحيوانات تتّضح أكثر فأكثر، بفضل التطوّر العلمي، وأبحاث العلماء والمتخصّصين التي كشفت لنا خصائص الحيوان بالمقارنة مع خصائص الإنسان، كما كشفت نِسَبَ التشابه الجيني والبصمة الوراثيّة بين البشر المعاصرين وأنواع غير بشريّة كالشمبانزي وقرود البونوبو وقرود المكاك.

كما في الأدغال إذاً، كذلك بين البشر... إنها شريعة الغاب حيث الغلبة للأقوى، وحيث الغاية تبرّر الوسيلة. في عالم الحيوان، يوجد صنفان رئيسيّان: الحيوانات المفترسة والفرائس، أليست هذه هي الحال أيضاً في مملكة البشر؟ أليس الإنسان المتمكّن من تفعيل العقل والإبداع والابتكار هو أيضاً، وفي الوقت نفسه، الكائن الأكثر عنفاً ووحشيّة على الإطلاق، وهو الوحيد القادر على إفناء جنسه وبقيّة الأجناس الحيّة على الأرض.

في روايته "مزرعة الحيوان"، لا يتحدّث الروائي البريطاني جورج أورويل عن الحيوانات بل عن البشر. عن الخنازير الذكيّة القاسية التي تستولي على السلطة وتمارس الحكم المُطلَق. الشخصيّة الأكثر استبداداً تتماهى مع ستالين، فتحكي الرواية عنه وعن قطعان كلابه وشرطته السرّيّة، وعن ذلك الإعلام الذي لا وظيفة له سوى تأليه الطاغية وتغطية جرائمه، وكيف أنّ معظم حيوانات "مزرعة الحيوان" تصدّق اللغة التي أُفرغَت من محتواها. اللغة التي تبرّر القتل والسحل وارتكاب الفظائع! أمّا الحيوانات المتمرّدة فهي أربعة فقط، وسرعان ما تساق إلى الإعدام. صحيح أنّ هذه الرواية المناهضة للنظام الستاليني تنطلق من التجربة السوفياتيّة في مرحلة تاريخيّة محدّدة، لكنّ ما جاء فيها لا يزال حاضراً في اللحظة الراهنة كمرآة حيّة تعكس حقائق المجتمعات ومُثُلها ومعتقداتها وتجاوزاتها، وتكشف نوازع العنف المتجذّر في النفوس والدعوة إلى الحروب التي ترافق البشريّة كظلّها، من زمن إلى آخر، تارةً باسم الدين، وتارةً أخرى باسم الحرّيّة وحقوق الإنسان.

استنطاق الحيوانات كان قناعاً لانتقاد السلطة، وتقاليد المجتمع، وكان تمرير رسالة إنسانيّة تكشف المستور وتعكس دور المثقّف الفعليّ كشاهد وناقد. قبل أورويل، طالعنا هذا النهج مع أسماء عدّة من أشهرها ابن المقفّع الذي مات مقتولاً، والشاعر الفرنسي جان دو لافونتان. لكن، إلى أيّ مدى يستقيم هذا الخلط بين البشر والحيوانات؟ هنا أيضاً نقع في التباس التمييز بين الإنسان والحيوان، ونكتشف مرّة أخرى أنّ التعاطي مع الكائنات ليس واحداً. التعامل مع الحيوان يتحدّد، منذ اللحظة الأولى، انطلاقاً من شكله. ليس ثمّة شكل واحد لسائر الحيوانات. العصفور ليس ذئباً، ودودة الأرض ليست حيّة، والأرنب ليس وحشاً ضارياً، والحمار ليس ضبعاً، والنعجة ليست أسداً جائعاً، بينما الشكل البشريّ واحد. قناع واحد للجلاد والضحية، للمخلِّص والخائن، للصادق والمنافق، للمنادي بالحرية ويَستعبد في الظلام، للداعي إلى الحبّ وقلبه ينتشي بالثأر، للرحيم وللّذي لا رحمة في قلبه... للجميع شكلٌ واحــد، فهل نحسد الحيوان على جلاء هيئته ووضوحه؟

كيف يمكن أن نميّز إنساناً من إنسان آخر انطلاقاً من مظهره الخارجيّ فقط؟ كيف نفرّق بين القاتل والقتيل؟ القاتل الذي بيننا، وقد يكون في داخلنا، نطعمه ويطعمنا، يفرح لفرحنا ويحزن لأحزاننا. يتودّد إلينا وينصب لنا الفخاخ في آن معاً.

تبّاً لهذه الطبيعة التي تخلق العصفور والصّيّاد في وقت واحد. هذه الطبيعة التي تقول لكائناتها، بشراً وحيواناتٍ، صباحَ كلِّ يوم: كُلُوا بعضكم بعضاً...

عنفُ الحيوان مُبَرمَج ومحدود، أمّا عنفُ الإنسان، فهو – كعبقريّته وقدرته على الابتكار - بلا حدود!


MISS 3