أحمد عدنان

الإسلام بعد كورونا

2 نيسان 2020

03 : 35

على الجميع الاستعداد لليوم التالي بعد كورونا (أ ف ب)

قبل نحو قرن، تحدث فرويد عن "الجرح النرجسي الكوني" قاصداً الاكتشافات العلمية التي جرحت او كسرت عزة النفس البشرية، وأولها أن الأرض تدور حول الشمس، وليست الشمس التي تدور حول الأرض، وبالتالي انتفت مركزية الإنسان وكوكبه في الكون. وثانيها ما اكتشفه داروين، أي الأصل الحيواني للإنسان، وعليه انتفت - موضوعياً ونظرياً - سيادة الإنسان على بقية المخلوقات. وليس آخرها، ما فجره فرويد نفسه، ان اللاوعي هو الحاكم لتصرفات الإنسان، بدلا من الوعي الذي ظننا أنه كل شيء.

إن أثر الجرح النرجسي الكوني، يوازي أثر اصطدام كويكب بالكرة الأرضية، فما جرى بعده كان ثورياً وانقلابياً بكل معنى الكلمة، صحيح أن الإنسانية هضمت هذه الجروح واستوعبتها ثم انطلقت بسرعة الصواريخ في آفاق العلم واكتشافاته وانجازاته، فضلاً عن الثورات القيمية الهائلة في السياسة وفي الأخلاق وفي الفلسفة، لكن الأثمان الحتمية التي دفعتها الإنسانية كانت باهظة، ومن صورها الحربان العالميتان وتداعياتهما.

إن جائحة "كورونا" التي تضرب كوكبنا هذه الأيام، نقطة تحول في مسار البشرية ككل، وإذا كانت مقالات كثيرة - في الأيام الماضية - تناولت بعض الٱثار السياسية والاقتصادية، فمن الضروري تسليط الضوء - قدر المستطاع - على تأثيراته الإسلامية الحتمية.

منذ ثورة يوليو 1952، وربما قبلها، حرص النظام العربي على تدجين الإسلام الرسمي واستخدامه، وقد حرص ضباط يوليو على استتباع المؤسسة الدينية الرسمية واستضعافها، وقلدتها الجمهوريات العسكرية العربية، وهذا ربما خدم الدين - بلا قصد - من حيث ربط الاعتدال بالإسلام الرسمي.

لكن المشكلة اللاحقة، ان هذه الجمهوريات العسكرية فشلت في مشروع الدولة، ومن اوجه ذلك نكسة 1967، فتراجع الإسلام الرسمي كثيرا في الشارع، وزاحمه إسلامان، الإسلام السياسي والإسلام الصوفي (الروحي)، لكن الصوفية كان أثرها محدوداً، واستولى الإسلام السياسي على أغلب الصورة بحكم الأولويات السياسية للظرف التاريخي، وبدا الإسلام الرسمي مقتصراً على الموالاة، بينما الإسلام السياسي تمدد في شرائح المعارضة المكتومة.

ويبدو ان النظام العربي، قرر مزاحمة الإسلامويين في السياسة والمزايدة عليهم، وهناك محطات ربما أجبرت الساسة العرب على ذلك، ومنها الثورة الإسلاموية الإيرانية وفورة الجهاد الأفغاني، لكن الإسلام السياسي ظل يقتات على إخفاقات الدولة العربية لولا حصول نقطتي تحول، 11 سبتمبر التي دشنت صداماً جذرياً بين الدولة - والعالم ككل - وبين الحركات الإرهابية، ثم أحداث الربيع العربي، التي أجبرت بعض الدول العربية على مواجهة أساس الفكر الإرهابي، أي الإسلام السياسي.





وكما اقتات الإسلامويون على إخفاقات الدولة العربية، بدأت المؤسسات الدينية الرسمية تستعيد هيبتها وتأثيراتها بناء على خسائر وصدامات الإسلام السياسي، وما عزز موقف المؤسسة الرسمية، ان مواقفها وسياساتها أكثر تجاوباً مع مصالح المواطن العادي، سواء مع دولته او مع العالم.

لقد اجتاحتنا كورونا والإسلام السياسي في منتهى ضعفه، والإسلام الرسمي في أوجّ قوته، فهل يستمر هذا المشهد في ظلال الجائحة؟ كتب د. رضوان السيد مقالة بعنوان "الدين والجوائح وسحر العالم" ألمح فيها - من دون أي تصريح - إلى صعود الإسلام الروحي (الصوفي) مستقبلاً، وهذه صورة مشرقة تبعث الأمل، لكن دونها تحديات واقعية ثقيلة، او ربما تسبقها عواصف عاتية، تماماً كما هبت الأحداث الجسام بعد الجروح النرجسية الكونية.

ومن الضروري الإشارة الى ملاحظات رئيسة قبل استشراف المستقبل المنظور، أولاها جفاف وفتور خطاب المؤسسة الدينية الرسمية في العالم العربي سواء في حال ضعفها او في حال قوتها، وثانيتها أن هذه المؤسسة لم تنتصر على الإسلام السياسي بل تقدمت بسبب تراجع الإسلام السياسي، وثالثتها ان الدولة العربية هي التي انتصرت على الإسلام السياسي بحكم ان الدولة هي المحرك الأساس في دنيا العرب في ظل ضعف او غياب المجتمع المدني والسلطة الرابعة.

ما تبثه هذه الأيام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يستحق التأمل والدرس، هذا يعلن أنه المهدي المنتظر، وتلك تعلن أنها دابّة آخر الزمان، وهناك من يبشرنا - او ينذرنا - بانعقاد يوم القيامة غداً، والأخطر أولئك الذين يربطون جائحة كورونا بتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية استدعت الغضب السماوي على كوكب الارض.

إن منطقة الشرق الأوسط، التي تسمى ايضا العالمين العربي والإسلامي، مقبلة على سيناريوات مفتوحة، وحين نعود الى كتب التاريخ نجد ان الإسلام الصوفي نشأ كرد فعل على الترف الاقتصادي، ونجد أيضا أن التيارات الرومانسية نشأت كرد فعل على الثورة الصناعية الكبرى، ونجد في المقابل، ان ازدهار النازية في ألمانيا - مثلا - اتكأ على جرحها النرجسي، هزيمة الحرب العالمية الأولى والظروف الاقتصادية التي تبعتها.

أخشى ما أخشاه، خصوصا مع كساد اقتصادي كوني محتمل، ان نكون أمام جولة جديدة وصعبة في مواجهة الإسلام السياسي والتطرّف، ففي المستقبل المنظور، سنشهد انتعاشا للإسلام الروحي (الصوفي) بلا شك، لكنه لن يصعد وحده، سيقتات الإسلام السياسي كعادته على نوائب الدهر محاولاً الإقلاع من جديد، وستكون معركة الدولة العربية والإسلامية أصعب، فجائحة كورونا جرحت صميم النفس البشرية، فالفيروس الأضعف في أسرة فيروسات الانفلونزا أغلق كل دور العبادة، وأجبر الناس على الانعزال والاعتزال والتباعد الاجتماعي، ووضع دولاً كبرى وعظمى - رغم تفوقها العلمي الظاهر - في مقام الذلّ والعجز، لذلك على الجميع الاستعداد لليوم التالي بعد كورونا، يوم المخاضات الحادة والمتضادة، وعلى رأسها الإلحاد، وليت الدولة العربية تجدد دماء مؤسستها الدينية الرسمية بطاقات الإسلام الروحي من أجل ترميم الفجوة بين الشارع وبين الإسلام الرسمي، الفجوة التي يستغلها الإسلام السياسي دائما، فالأديان - في الفضاء العام - حاجة كما هي وظيفة، وتجاهلها بالمطلق خطير.

المرحلة المقبلة - عربياً واسلامياً - تستدعي عملاً جماعياً جاداً ودقيقاً ومتأنياً على أساس الاعتراف بالجرح النرجسي الكوني المستجد، وكل خطوة يجب وزنها بميزان الذهب حتى لا تأخذنا - بلا قصد - إلى دائرة المجهول والخطر، دخل ملك الموت على النبي سليمان فجعل ينظر إِلى رجل من جلسائه؛ يديم النظر إِليه، فلَما خرج قال الجليس: من هذا؟ قال: هذا مَلَكُ الموْت. قال: لقد رأيته ينظر إليَّ كأنه يريدني! قال: فما تريد؟ قال: أُريد أَن تحملني الريح، فتلقيني بالهند! فدعا بالريح، فحمله عليها، فألقته في الهند. ثم أتى ملك الموت سليمان عليه السلام فقال: إنك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي؟ قال: كنت أعجب منه؛ إني أمِرْتُ أن أقبض روحه في الهند، وهو عندك.


MISS 3