تشيلامكوري رجا موهان

بايدن ومودي: المصالح أهم من الإيديولوجيا

4 تموز 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

بايدن ومودي في افتتاح قمّة مجموعة العشرين في نوسا دوا | أندونيسيا، 15 تشرين الثاني 2022

وجد عدد كبير من المحلّلين والمعلّقين في الولايات المتحدة والهند صعوبة في فهم مسار تطور العلاقات بين البلدين. لنفكر مثلاً بالانتقادات الغربية الواسعة بسبب تردد الهند في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتسارع عمليات شراء النفط الروسي، واستمرار اتكال البلد على الأسلحة الروسية. لهذه الأسباب، توقّع هؤلاء النقّاد على الأرجح أن تفك الولايات المتحدة ارتباطها عن الهند، لكنهم عادوا وتفاجأوا حين قرر الرئيس الأميركي جو بايدن توثيق العلاقات الثنائية. يقول بايدن إن الولايات المتحدة تخوض «لعبة طويلة» من التواصل مع الهند ولا يمكن أن يُضعِفها اختلاف المواقف في الملف الأوكراني. رغم استمرار العلاقات بين الهند وموسكو (أو ربما بسبب هذه العلاقة بالذات)، تبذل إدارة بايدن قصارى جهدها لمساعدة الهند على تحديث قطاعها الدفاعي، فقد وافقت على تسليم الهند واحداً من أهم الكنوز في قطاع الدفاع الأميركي: إنها التكنولوجيا التي تسمح بتصنيع محرّكات الطائرات المقاتلة.



يمكن تفسير هذا التناقض بين الخطاب العام والسياسات الرسمية أيضاً بالمعايير الإيديولوجية المشوّهة التي يستعملها صنّاع الرأي الأميركيون والهنود في معظم الأحيان للتعامل مع هذه العلاقة الثنائية. حتى هذا اليوم، لا تستطيع معظم الأوساط الاستراتيجية الهندية أن تتجاوز مبادئ عدم الانحياز القديمة: ظهرت هذه الفكرة خلال الحرب الباردة، وهي تعتبر الابتعاد عن الولايات المتحدة قدر الإمكان أفضل طريقة لتحقيق المصالح الهندية. في المقابل، يُركّز المحللون الغربيون على القيم الديمقراطية التي تطغى على المنطق الاستراتيجي الثابت المسؤول عن تقريب المسافات بين واشنطن ونيودلهي. تُحدِث النقاشات العامة التي يطلقها كل طرف عن البلد الآخر ضجّة تحمل مؤشرات وافرة على تبدّل طبيعة العلاقات الهندية الأميركية.

اتّضح هذا الارتباك كله هذا الأسبوع، حين وصل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى واشنطن للمشاركة في قمّة مع نظيره الأميركي جو بايدن، يوم الخميس. اعتبر المسؤولون في العاصمتَين زيارة مودي «محورية» لتعزيز العلاقات الثنائية و»ترسيخ» الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند، لكن بدأ مراقبو هذه العلاقة يتخبّطون مجدّداً. يتساءل منتقدو مودي الغربيون عن السبب الذي دفع بايدن إلى استضافة الزعيم الهندي بهذا الحماس. في النهاية، يوحي إصرار إدارة بايدن على اعتبار التطوّرات الجيوسياسية منافسة بين الديمقراطية والاستبـــــــــــــــــــــداد بــــــــــــــــأن الأميركيين يعارضــــــــون ما اعتبره النقاد تراجعاً ديمقراطياً في عهد مودي. في غضون ذلك، تفاجأت نخبة قديمة تَحِنّ إلى حقبة عدم الانحياز في الهند بمساعي مودي إلى توثيق العلاقات الثنائية مجدداً.

تتعلق المشكلة الحقيقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بالتردد في قراءة النزعات التي تدفع الولايات المتحدة والهند إلى التقارب الاستراتيجي بشكلٍ صحيح. أصبح السبب الرئيسي لهذا التقارب مألوفاً الآن: يشعر البلدان بأن الصين تطرح تحديات كبرى عليهما. بعد الكثير من التردد في آخر عقدَين، أدركت الولايات المتحدة أخيراً أن الصين تطرح تهديداً دائماً وطويل الأمد على المصالح الأميركية. أكدت استراتيجية الأمن القومي الأميركية للعام 2022 ثبات هذه الأولوية الاستراتيجية رغــــــــــــــــــــــــــــم اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا.

بدأت الولايــــــــــــــــــــــــــــات المتحدة تسير في هذا الاتجاه منذ فترة. كانت الصداقة الصينيــــــــــــــــــــــــة الأميركية قد بلغت ذروتها في العام 2000، حين زار الرئيس الأميركي بيل كلينتون بكين، لكن حاول جميع الرؤساء اللاحقين تعديل الفرضيات المتعلّقة بصعود بكين الحميد. بدأ جورج بوش الإبن عهده الرئاسي وهو يدرك ضرورة التصدي للصين في آسيا، لكن سرعان ما انشغل بهجوم 11 أيلول والحروب اللاحقة في أفغانستان والعراق. ثم اتّخذ باراك أوباما خطوات إضافية لتغيير وجهة البلد، فأعلن عن انتقال أمني نحو «محور آسيا»، لكن بقي تنفيذ هذه المقاربة محدوداً بسبب حاجة البلد المزعومة إلى التعاون مع الصين في المسائل الاقتصادية والمناخية. في المرحلة اللاحقة، شدّدت استراتيجية الأمن القومي للعام 2017، في عهد دونالد ترامب، على حجم التحديات التي تطرحها الصين. أما بايدن، فقد أكد على التهديدات الصينية القائمة وأطــــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــــــــــــــــــق رداً أميركياً منهجياً.

عبّر جميع الرؤساء منذ عهد بيل كلينتون عن رغبة شديدة في تعميق العلاقات مع الهند، كجزءٍ من الحملة الرامية إلى إعادة هيكلة السياسة الأميركية الخارجية والأمنية وتوجيهها نحو آسيا. تُعتبر الزيارة الرسمية التي قام بها مودي إلى واشنطن هذا الأسبوع أحدث خطوة لتطوير العلاقات الأميركية الهندية بوتيرة ثابتة، وقد تسارعت هذه العملية بكل وضوح في عهد بايدن.

اعتبرت الهند بدورها الصين من أهم التحديات الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين. كشفت أربع أزمات عسكرية كبرى على طول الحدود المشتركة بين البلدين في الهيمالايا (في الأعوام 2013، و2014، و2017، و2020) حجم التهديدات المطروحة على نيودلهي، واتّضحت هذه التحدّيـــــــــــــات أيضاً عبر السياســــــــــــــــــــــــــــــات الصينية التي تنافس تفوّق الهند في شبه القارة الهندية، وتتحدّى مصالح البلد في المحيط الهندي، وتكبـــــــــــــــــح طموحاته العالمية.

كان التوتّر السائد في الطبقة السياسية الهندية كفيلاً بمنع نيودلهي من اقتناص الفرص الجديدة التي تستطيع الاستفادة منها عبر التعاون مع واشنطن في عهد بوش، لكن تحرّك مودي الآن لبناء شراكة استراتيجية راسخة. بعبارة أخرى، أصبحت مبرّرات تقوية الشراكة الأميركية الهندية واضحة منذ أكثر من عشرين سنة. تأخرت الهند في السير في هذا الاتجاه بسبب انشغالها بمعالجة شكوكها الكامنة بشأن الولايات المتحدة. اليوم، يقول مودي إن «ثقة غير مسبوقة» تجمع بين زعيمَي البلدين.

امتنع المحللون في البلدين عن الاعتراف بالوجهة الجديدة التي تتّخذها العلاقات الثنائية بسبب الخطاب الإيديولوجي المستعمل في مجال السياسة الخارجية في كل بلد منهما: الديمقراطية في الولايات المتحدة، وسياسة عدم الانحياز في الهند.

كادت انتقــــــــــــادات الليبرالييــــــــــــــــــــن الغربيين لسياسات مودي المحلية تشوّش على ترسيخ التقارب البنيوي بين البلدين في الملف الصيني. لم يكن التركيز على نشر الديمقراطية حول العالم، باعتباره جزءاً من السياسة الخارجية الأميركية الرسمية منذ حقبة الحرب الباردة، يعني أن تتخلى الولايات المتحدة عن مساعيها لتحقيق مصالح أساسية أخرى. كان البعض، في الولايات المتحدة والهند معاً، يأمل في أن تتدخل واشنطن بطريقة ما لإنقاذ الديمقراطية الهندية من نفسها، لكنه توقّع غير واقعي. كانت مخاوف المحللين في الهند، في معسكرَي اليمين واليسار، غير مبررة أيضاً، إذ يبدو هؤلاء مقتنعين بتآمر الأميركيين للتدخل في شؤون الهند.

لطالما كان الاقتراح القائل إن الولايات المتحدة تستطيع دعم الديمقراطية في الهند البعيدة، رغم عجزها عن مساعدة هايتي المجاورة على إصلاح مشاكلها الديمقراطية، مجرّد وهم. تُعتبر المعركة في سبيل تعزيز القيم الديمقراطية في الهند مَهمّة سياسية يُفترض أن يتولاها الهنود ولا يمكن أن ينفّذها ليبراليون من دول خارجية. وإذا تمكنت واشنطن من التعامل مع عائلة آل سعود، والجيش الباكستانـــــــــــــــــي، والحزب الشيوعي الصيني طوال عقود، فمن غير المنطقي أن تتردّد في استغلال المصالح المشتركة والواضحة مع حكومة مودي.

في الوقت نفسه، يتّضح دور مبدأ عدم الانحياز في تحريك السياسة الخارجية الهندية. حتى في ذروة الحرب الباردة، لجأ رئيس الوزراء الهندي، جواهر لال نهرو، إلى الولايات المتحدة بحثاً عن الدعم العسكري حين هاجمت الصين البلد في العام 1962. وفي التِبَت خلال الخمسينات، تعاونت الأوساط الاستخبارية في فريق نهرو مع وكالة الاستخبارات المركزية. ثم قامت رئيسة الوزراء اللاحقة، أنديرا غاندي، بالتوقيع على معاهدة أمنية مع الاتحاد السوفياتي في العام 1971، لأنها كانت تخشى تداعيات التقارب الصيني الأميركي في آسيا بمبادرة من إدارة نيسكون.

لا شكّ في أن الديمقراطية وسياسة عدم الانحياز هما جزء من أفكار السياسة الخارجية القديمة في الولايات المتحدة والهند، ومن المتوقع أن تحافظا على أهميتهما في الخطاب المحلي لكل بلد. لكن لا يمكن أن تصبح أي إيديولوجيا منهما غاية بحد ذاتها.

لم تسمح واشنطن للقيم الديمقراطية بإعاقة مساعيها الرامية إلى تحقيق مصالحها الأمنية التي تُعتبر على الأرجح ركيزة للديمقراطية الأميركية. ينطبق المبدأ نفسه على مفهوم عدم الانحياز الشائع في الهند: لا شيء يثبت أن نيودلهي مُحصّنة ضد منطق التعامل مع التهديدات التي يواجهها البلد تزامناً مع تحقيق مصالحها. يتمتّع مودي بالثقة اللازمة لتجاوز الشكوك المحلية الكامنة، على عكس أسلافه في التاريخ الحديث، وهذا ما يفسّر عدم تردّده في التواصل مع الولايات المتحدة خدمةً للمصالح الوطنية.

كانت ضخامة التحديات التي تطرحها الصين على البلدين كفيلة بتفعيل الجهود الثنائية، ومن المنتظر أن توضع اللمسات الأخيرة على أجندة فاعلة بفضل قوة إرادة المسؤولين في واشنطن ونيودلهي. تتراوح الأجندة المرتقبة بين مجالات الدفاع، وأشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والفضاء الخارجي. نتيجةً لذلك، من المتوقع أن تُحدِث هذه الواقعية المستجدة في السياسة الخارجية الأميركية والهندية بعض المفاجآت الإضافية خلال الأيام المقبلة.


MISS 3