جولي مراد

لا يزعجه الحجر ويرى في العلمانية خلاص لبنان

مروان خوري: الكورونا كفٌّ كبير نحن بأمسّ الحاجة إليه

10 نيسان 2020

05 : 41

هو مقلٌّ في الكلام والإطلالة، تماماً كنُدرة ملذّاتٍ تجدُها بعد طول عناءٍ وفي باطنٍ دفين. لا يُحبّذ الثرثرة على الورق بل يُفضّل عليها تلك الناطقة بأحرفٍ موسيقية والتي تولد في لحظات سكينةٍ يختلي بها إلى نفسه. ليس من قماشة مألوفة. له من رهافة الحسّ ما يجعلك متردّداً في إقلاق راحته بأسئلةٍ رتيبة، ومن العمق ما يجعلك مصرّاً على سبر أغواره طمعاً بلذّة الاكتشاف والتواصل. مع مروان خوري هذا الحوار.


مروان خوري "البيتوتي" قد لا يزعجه الحجر بقدر الآخرين. كيف تتعايش معه؟

لا تزعجني فكرة الحجر بمعنى قضاء وقتي في البيت فأنا أحبّ ذلك، ولكني لا أنكر أنّ ما يزعجني هو الحالة النفسية والخوف الذي يولّده فيّ كل ما يحصل، ليس على نفسي بالضرورة، بل على من هم حولي وفي محيطي. الخوف على المصير والمستقبل شعورٌ عالمي طبعاً ولا يحصل كلّ يوم، ولكنّي مجهزٌ تماماً للاختلاء بنفسي ولا أخفي أنّ الأمر دفعني الى التركيز على عملي كوني كنت ملتهياً سابقاً بالحفلات وصخب الحياة الاعتيادي.



ماذا علّمتك تجربة "الكورونا"؟

كلّ صعوبة نواجهها في الحياة اختبارٌ لمعدننا. أهمية الحدث في مقدار تفاعلنا معه. ليس الكورونا أمراً جديداً فهو من سنّة الطبيعة، فالفيروسات موجودة منذ الأزل، وقد حثّت الانسان على التطوّر طبياً منذ مئات السنين، منذ الانفلونزا الاسبانية، أو الطاعون الاسود في الـ1820. هي دورة إذاً، ورغم أنها أزمةٌ مستفحلة إلا أنّها توجّهنا بشدّة نحو أسئلةٍ كبرى بجوانب متشعّبة. الجانب الأول نفسيّ إنسانيّ كرؤيتي للحيـاة مثلاً وتلقّفـي للمشاكل الطبيّة والنظام البيئي والوعي عند الافراد والجماعات والدول و"البيغ فارما". رحيل أمي منذ فترة ليست ببعيدة - ثمانية أشهر تحديداً - من أقسى التجارب التي عشتها. راودتني حينها أسئلةٌ كثيرة كانت مدفونة في أعماقي وتحرّكت بفعل الحدث الأليم، تماماً كما يحرّك الكورونا فيّ اليوم أسئلةً جوهرية من نوع: ما الغرض من وجودنا؟ ما موقعنا من الآخرين؟ من الطبيعة؟ هل أنا سيّد الكون المطلق أم جزءٌ بسيط منه؟ في قناعتي أن للبشر موقعاً بالغ الأهمية بالنسبة الى الطبيعة والخالق، ولكننا لسنا الهدف الأوحد والوحيد. هذه العنجهية التاريخية القديمة بقدم الزمن وتصرّفنا وكأنّنا محور الكون مؤذية للغاية. فكرم الطبيعة كان لافتاً معنا. يكفي ما أحدثته الثورة الصناعية من تغييرات ايجابية كفائضٍ في المواد الغذائية مثلاً، اذ لا يوجد فقر مدقع ولا شحّ في الموارد اليوم إلا في بؤر عجزٍ معيّنة. وضعنا عموماً هو أفضل ممّن سبقونا. اقتصادنا لا شكّ أفضل. والتكنولوجيا قدّمت لنا الكثير ولكننا لم نأخذ منها إلا السلبي، فالصناعات تحوّلت إلى آلة تدمير منهجيّ للنظام البيئي. يكفي أن ننظر الى سلوك الانظمة والزعماء، والتنافس الاقتصادي غير الشريف بينهم. إننا على قاب قوسين من حربٍ شرسة قد يولّدها التنافس المحموم بين الولايات المتحدة والصين اقتصادياً، رغم ما أغدقته الطبيعة عليهما من إمكاناتٍ جبارة. نحن إذاً كبشرٍ نأخذ كل ما يُعطى لنا بأنانيةٍ وغطرسة، أتحدّث عن أصحاب القرار في العالم هنا طبعاً. وكأنّ الكورونا، هذا الكائن المجهري، إنما حلّ ليعيدنا الى المسار الصحيح، الى معدننا الجوهري بضربة مساواةٍ مذهلة، رغم قساوة التجربة. وكأنّ الكورونا كفّ كبير كنا بأمسّ الحاجة إليه لنفهم بأنّنا جزءٌ من الهرم ولسنا الهدف الأوحد للكون.



مطرب الرومنسية الأوّل هل يبتعد عن الحب نحو أعمالٍ تحكي قضايا إنسانية كبرى كما فعل مايكل جاكسون في Man in the Mirror أو We are the World؟


لقد أجبتِ عمّا يختلج بداخلي. اتجاهي للرومنسية هو إيمان مني بالحبّ وضرورة استمرار الصورة المشرقة للحب والحياة. فالحلم أجمل من الواقع وحقيقيّ أحياناً أكثر منه. جزءٌ من رومانسيتي الحالمة هو هروبٌ من واقعٍ لا أستسيغه، فترينني أهرب الى الحب في كلّ موضوع أريد معالجته. فالقضايا المطروحة أخيراً، من سياسية وما شابه آنيةٌ فحسب، ولكن من يغوص في أعمالي يكتشف خيوطاً وتفاصيل صغيرة لها علاقة بقضايا كبرى ربما لم أعبّر عنها بوضوح تامّ، وستدفعني المرحلة المقبلة بالتأكيد نحو أعمالٍ طابعها العريض إنسانيّ كقضية الطفولة والبيئة، والمرأة وحقوقها بعيداً عن الغزل. العالم بأسره متّجه نحو آفاقٍ مختلفة أتمنى ألا تكون أسوأ، لأننا مقبلون على استحقاقاتٍ مصيرية وعلينا التصرّف معها بحكمة.



نقلنا من الغرب تجربة التصفيق للممرضين ولكننا لم نلجأ الى الغناء من البلاكين أسوةً بفناني الغرب، هل الفنان اللبناني يخجل من الاقدام على خطوة كهذه؟


ثمّة خاصيّة لكلّ مجتمع وقد دفع المجتمع الايطالي ثمن اللُّحمة غالياً خصوصاً أن الداء الذي هو بصدده يستوجب التباعُد. أما نحنُ فالأزمات التي عشناها سابقاً من ثورةٍ أو مشاكل اقتصادية هيّأت شعبنا على التباعد، فكنا جاهزين للحجر وملازمة المنزل بطريقة غير مباشرة، بينما الايطالي اضطر الى القبوع في المنزل مكرهاً. حين سمعتُ التصفيق على البلاكين خلت أنّهم اكتشفوا علاجاً للكورونا. سعدت جداً لمعرفتي بأنّها تحيةٌ الى الممرضين. أحببت التقليد هنا، وقدّمت بنفسي "هاي إلهن تحية" لمن يعطي بلا مقابل ومن دون هواجس طائفية. تجربتي الشخصية مع والدتي لأربع سنوات جعلتني أنحني للممرّضين وعطائهم. في المقابل لا أحبّ التقليد في مبادراتٍ من نوع "تراند التبرّع" والتحدّي عبر "السوشيل ميديا". لا أحبّذ الإعلان عن التبرّع ولا فرضه على الآخرين.. أما فكرة أن نغنّي على البلكون فأجدها منسجمةً مع طبيعة ايطاليا بينما صيغة البلكون عندنا مختلفة، ولعلّنا خجولون أكثر من الايطاليين. ومع ذلك إن افتتح أحدهم الأمر على "السوشيل ميديا" ربّما يصبح مقبولاً، فالأخيرة قضت على الخجل والعادات. أنا شخصياً خجول ومتحفّظ عادةً ولن تجديني في عملٍ مباشرٍ من هذا النوع.





هل تؤمن بمستقبلٍ واعد للبنان أو تسلّل إليك الإحباط؟


لا نستطيع أن نفقد الأمل لأننا بذلك نسير عكس الحياة. ورغم كلّ الوقائع والأرقام لا ننكر أنّ ثمة "وعياً" تولّد لدى اللبناني، وإن ببطء، بأنّه تعبان وما عاد مؤمناً بالمنظومة الحالية، وهذا بحدّ ذاته وقودٌ للتغيير ولكن التوجّه العام ما زال غير واضح. مشاكلنا تعود الى ما قبل حرب 75. إننا في حربٍ دائمة، وإن بصيغٍ مختلفة، تستكين أحياناً ثم تستفيق بفعل الظروف الاقليمية. "الطائفية" علّتنا الاساسية وكان البابا يوحنا بولس الثاني محقاً حين قال إنّ "لبنان رسالة" والثمن باهظٌ ودموي. التركيبة السياسية الطائفية عندنا قاتلة وقضت على الديموقراطية لصالح "التوافقية". وهذه التركيبة معطوفة على سلوك المواطن المتخاذل والمتواطئ في الانتخابات أوصلت من يشبه النظام الى السلطة وأقصت الأكفاء. التخلّص من كلّ هذه التركيبة بحاجةٍ الى وعي ورؤية. هي ثورة على الذات أولاً، وتحتاج الى مسارٍ طويل خصوصاً أنّ نظامنا المهترئ متغلغلٌ في كلّ المؤسسات. أنا مع الثورة ولكن ليس بقلب الطاولة كلياً لأنّنا بحاجةٍ الى وقتٍ طويل لإعادة انتاج نظامٍ جديد غير توافقيّ بل قائمٍ على أسسٍ ديموقراطية فعليّة. الحلّ في العلمانية، أيّ أن نقدّم الكفاءة على الانتماء الطائفي. ويجب أن تتمتع الثورة برؤية واضحة وأن تتحلّى برأسٍ يقودها وتمتلك برنامجاً بديلاً عمّا هو قائم، حينها لا يستطيع أي طرف مصادرتها.


تمويه وأفلام



بعيداً عن التمثيل يموّه أنطوني هوبكينز عن نفسه مع قطّته والرسم وعزف البيانو، كيف تموّه أنت عن نفسك؟

أنا من أشدّ المعجبين بهوبكينز، فهو مميّز ومتواضع ولا يشعر بأن له فضلاً شخصياً في موهبته. ما كنت أدري أنه يحبّ القطط. مَن لم يكتشف حبّه للحيوان والطبيعة يعاني نقصاً فادحاً. أنا أيضاً عندي قطة اسمها "ليلي" وقد أحببت من خلالها الحيوانات الأخرى وبسببها زاد تعاطفي مع الكائنات الحيّة. تبهرني الحكمة الكامنة في كائنٍ مهمّ ببساطته وبراءته، عكسنا نحن البشر المعقدّو التركيبة والقادرون على الشرّ. أتمنّى لو استطيع اقتناء كلب ولكن بيتي غير ملائم لذلك. تمدّني "ليلي" ببعض التوازن في حياتي وكذلك أرفّه عن نفسي بالموسيقى والقراءة. أحبّ كذلك رفقة الكتب الدائمة، حتى إن لم أقرأها، فالمكتبة تشعرني بالطمأنينة، وأنا أسهر أحياناً طوال الليل ليس لأعمل بل لأتابع اليوتيوب والمواضيع التي لها علاقة بالروحانيات والتكنولوجيا فالغوغل والانترنت يأخذان حيزاً كبيراً من وقتي واستقي منهما معلوماتي بدقةٍ وحرص.



أجمل فيلم شاهدته هذه السنة؟


لفت فيلم "جوكر" نظري طبعاً لما فيه من رمزيةٍ رائعة. شعرتُ بعد مشاهدته وكأنّ أمراً ما سيحصل وصدق حدسي بالثورة التي انطلقت في لبنان. أحب السينما الاميركية والفلسفة العصرية التي تقدّمها بالإضافة الى الموسيقى التصويريّة الجميلة فيها. من الأفلام التي أتذكرها أيضاً وما زلت انجذب إليه كلّما عرض Interstaller وهو يحكي عن الحب بين أبٍ وابنته وعن الموت رغم أنّه ظاهرياً عن الفضاء.



أوّل ما ستفعله بعد انتهاء الحجر؟

سأعود الى حياتي الطبيعية ليس إلا، وقد أخرج أكثر من البيت كوني نادر الخروج أساساً. سأخرج أكثر مع قلّة من الأصدقاء لشرب فنجان قهوة في بيروت ليس إلا.

كلمة أخيرة للبنانيين؟


أدعو لبلدي بالتوفيق فنحن مقبلون على استحقاقاتٍ كبيرة وصعبة. الدولة ما زالت مقصّرة مع المواطن في بعض النواحي، علماً أنّه لا يجب أن نظلم الكلّ هنا، فما تقوم به الحكومة من متابعةٍ للوضع الصحي عموماً جيّد، ويجب اعطاؤها فرصة، ولكن العمل السياسي ككلّ سائرٌ على النهج ذاته. الفترة المقبلة صعبة وأتمنى الصبر للبنانيين الذين أصبحوا خبراء في ذلك. وأتمنى أن نصل الى برّ الأمان بالحكمة وليس بالعنف طبعاً.


MISS 3