يوسف مرتضى

الثورة ليست نائمة... الثوّار يُنظّمون الصفوف والآتي أعظم

14 نيسان 2020

03 : 20

إزالة خِيَم الثوّار خلال أزمة "كورونا" (فضل عيتاني)

منذ ما بعد الثقة المخطوفة لحكومة الدكتور حسان دياب وتراجع حركة الثوار في الشارع، وتمادي هذا التراجع إلى الإنكفاء الكامل مع حلول زمن "كورونا"، تتزايد التساؤلات لدى الرأي العام اللبناني وحتى في أوساط بعض الثوار: هل انتهت الثورة؟ أو ما هو مصير الثورة بعد كل هذا الوقت من الجمود القسري لحركة الثوار في الشارع، وتراجع تأثيرها في عملية التغيير الفعلية التي لم تنجز بعد؟

وللإجابة على تلك التساؤلات، أزعم بداية أنه ليس هناك تعريف واحد تاريخياً للثورة، لا في أساليب تحركها ولا في طبيعة أدواتها، إنما المجمع عليه، هو في تعريف الهدف من الثورة، والذي تتلخص غايته في التغيير النوعي في نظام الحكم وليس في تغيير السلطة فقط واستبدال حكومة بحكومة آخرى. فماذا تعني الثورة في عملية التغيير في لبنان من وجهة نظري كناشط في الثورة وإلى أين مآلها؟

في الظرف اللبناني، هناك علتان تحكّمتا بمسار سيرورة نظام الحكم فيه منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920، وتكرستا مع قيام دولة الإستقلال في العام 1943، وهاتان العلتان وهما "الطائفية، وولاء أفرقاء الطبقة الحاكمة للخارج"، كانتا السبب الجوهري في تكريس مفهوم دولة المزرعة في لبنان، أي دولة الرعاة والرعايا على حساب دولة المواطنة.

ولم تترجم في الواقع وبقيت حبراً على ورق معادلة "لا شرقية ولا غربية" في الصفقة على صيغة الميثاق الوطني التي عقدت بين الراحلين بشارة الخوري ورياض الصلح. وحتى 17ت١ 2019 شهد لبنان حروباً أهلية عدة في الصراع على السلطة بسبب غياب آليات دولة المواطنة الديموقراطية الحديثة في نظام الحكم الذي قام على معادلة 5 و6 مكرر بين المسلمين والمسيحيين وكان أبرزها، في العام 1951 حين أراد الشيخ بشارة الخوري أن يمدد لحكمه ثلاث سنوات إضافية بعدما ضمن أكثرية نيابية إلى جانبه، ما أحدث توتراً شديداً في البلاد وبلغت الإستنفارات أشدها بين البسطة والجميزة وكادت المواجهة الطائفية أن تحصل في الشارع، فاستدرك الرئيس بشارة الخوري الأمر وأعلن استقالته في موقف مشهور ومشهود له لا زال يتردد صداه، فأنقذ لبنان من حرب أهلية محتّمة قائلاً: "كل الرئاسات لا تساوي هدر نقطة دم من أبناء شعبي". وانتخب على الأثر في العام 1952 الراحل كميل شمعون رئيساً للجمهورية مدعوماً من الجبهة الوطنية الإشتراكية، بعدما وقع على وثيقة يتعهد فيها بأن يكون هو آخر رئيس ماروني في البلاد. هذه الوثيقة احتفظ بها في أرشيفه الراحل غسان تويني، حسبما رواه لي الوزير والنائب السابق محسن دلول، الذي رآها بأم عينه ورفض التويني إيداعه صورة عنها.

وفي العام 1958 أراد الرئيس شمعون التمديد لعهده بعدما ضمن أكثرية نيابية إلى جانبه في انتخابات 1957، وضمن أيضاً دعم الغرب له الذي أنشأ حلف بغداد في حينه، ودفع بالأسطول السادس إلى شواطئ لبنان في تحدٍ واضح لزعامة جمال عبد الناصر والمد الناصري في المنطقة، بعد حرب السويس العام 1956 وتقارب عبد الناصر مع الإتحاد السوفياتي، فانفجرت في حينه ما سمي بثورة 1958، وانتخب على الأثر الراحل فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.

وصف عهد شهاب بالعهد الذهبي في لبنان لناحية قيام مؤسسات الرقابة وتفعيل القضاء باستقلالية غير مسبوقة، والإلتزام بالقواعد الدستورية والقانونية في الحكم، وأعيد النظر بمعادلة 5 و6 مكرر وأصبحت 6 و6 مكرر، واعتمدت الكفاءة في التوظيف، واشتهرت مقولة، "ماذا يقول الكتاب"، أي الدستور، التي كان يرددها الرئيس شهاب في إدارته للحكم. وليس المجال هنا مناسباً للحديث عن تدخلات المكتب الثاني غير المحمودة التي أساءت لعهد شهاب.

إن تلك الإدارة الدستورية والتي اتسمت بالعدالة بين اللبنانيين بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية لم ترق لبعض الفاعليات المارونية فنشأ في مواجهة الشهابية الحلف الثلاثي (الجميل، شمعون، إدّه). رفض الرئيس شهاب التمديد على خلاف سلفيه، وخسرت اللوائح التي كان يدعمها في مواجهة الحلف الثلاثي في انتخابات العام 1968. وكانت اتفاقية القاهرة التي شرّعت العمل الفدائي الفلسطيني المسلح إنطلاقاً من لبنان في عهد الرئيس الراحل شارل حلو العام 1969. وانقسم اللبنانيون حول هذا الأمر، في وقت كانت تشهد فيه البلاد حركة مطلبية شعبية تنادي بالعدالة الاجتماعية والغاء الطائفية في الحكم والإدارة، وتداخلت قضايا الصراع على نظام الحكم مع الصراع على هوية لبنان والموقف من القضية الفلسطينية وثورتها، حيث تتالت الصدامات بين الجيش اللبناني مدعوماً من فريق من اللبنانيين مع الفلسطينيين مدعومين من فريق آخر، وانفجرت الحرب الأهلية في العام 1975 في عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية، وخرجت عملية الصراع من يد اللبنانيين، وتحول لبنان إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، امتدت فيه الحروب حتى العام 1989، وانتهت بتوافق إقليمي ودولي في اتفاق الطائف الذي وافق عليه أفرقاء الصراع اللبنانيين باستثناء فريقين، الجنرال عون و"حزب الله".ما بعد الطائف

إتفاق الطائف الذي تحول إلى دستور جديد للبنان العام 1991، وضع نهاية للحرب الأهلية وحل الميليشيات، وكان المحاولة الأولى في قيام دولة المواطنة في لبنان، حيث نصت المادة 95 في الدستور الجديد: "أن على المجلس النيابي المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين العام 1992 أن يقدم على إقرار قانون إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية".

ونصت المادة ٢٢منه على إقرار قانون إنتخابات خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس شيوخ بتمثيل متساوٍ لمكونات المجتمع اللبناني مع صلاحيات محددة.

كما نص اتفاق الطائف على حل جميع الميليشيات وتسليم سلاحها للجيش اللبناني، وعلى خروج جميع القوى العسكرية من لبنان بعد خروج قوات العدو الإسرائيلي منه.

طيلة فترة حقبة الوصاية السورية والحقبة التي تلتها إلى اليوم جرى تجاوز الدستور في نظام الحوكمة، وحلت مكانه التفاهمات الثنائية والتسويات الرئاسية، فتعطل نظام فصل السلطات حيث أصبحت الحكومة مجلساً نيابياً مصغراً، وتمادت المنظومة الحاكمة بالمحاصصة وهدر المال العام والإثراء من حسابه، وتكرس النظام الريعي الزبائني، وبلغ الدين العام وفوائده سقوفاً غير مسبوقة بتاريخ الدولة اللبنانية منذ تأسيسها، وشمل الوجع الاجتماعي المعيشي والصحي والتعليمي والبيئي شرائح واسعة من المجتمع، صمّت السلطة آذانها على مطالباتهم المتكررة وتحركاتهم المتصاعدة في الشارع لتصويب الأمور، فواجهت تلك التحركات بالقمع والاعتقال على مدى عقد من الزمن، إلى أن طفح الكيل وكان انفجار 17ت١ 2019 اليوم المجيد في تاريخ لبنان.

17ت١ لم يكن تحركاً لتحقيق مطلب محدد حتى يطلق عليه حراكاً، كان انتفاضة شعبية بمضمون ثوري تغييري، حيث امتلأت ساحات لبنان من أقصاه إلى أقصاه بمئات آلاف اللبنانيات واللبنانيين من كل الأعمار بخاصة الجيل الجديد منهم، ومن مختلف الشرائح الاجتماعية، وهتفوا بصوت واحد تحت راية العلم اللبناني، نحن لبنانيون أولاً، خالعين عنهم ثوب الطائفية والمذهبية والمناطقية، وينادون بدولة المواطنة الديموقراطية التعددية العادلة. وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على أن ثورة في وعي فئات واسعة من اللبنانيين الأحرار قد انفجرت في مواجهة عهود الإنقسامات الطائفية والمذهبية، التي طالما استخدمتها الزعامات والأحزاب الطائفية سلاحاً لتأبيد تسلطها على البلاد والعباد. وجدير بالذكر هنا أنه قبل الحرب الأهلية الأخيرة وإبانها كان زعماء الطوائف يردون على المطالبين بإلغاء الطائفية، بالقول: "يجب الغاؤها في النفوس قبل النصوص". لقد نصت المادة 95 على الغائها في النصوص وها هي ثورة 17ت١ تلغيها من النفوس عند كتلة وازنة من اللبنانيين. ولكن تجسيد هذا الإلغاء يفترض كف يد المنظومة الحاكمة التي تعتاش على الطائفية والمذهبية عن الحكم، وعودة العمل بنظام حوكمة يحترم الدستور ويعمل بموجبه لا بالاستنساب فيه.

لقد نجحت الثورة في هز اللحمة التي كانت قائمة بين أفرقاء المنظومة الحاكمة وفككتها، وهذه كانت محطة أولى على طريق التغيير، وفرضت نفسها الثورة كقوة مراقبة حقيقة على أداء السلطة اليومي، ولكن التغيير الفعلي لن يحصل إلا بإعادة تكوين السلطة عبر انتخابات نيابية مبكرة وفق قواعد الدستور وما ينص عليه "الكتاب" من قوانين في مختلف المجالات.

ومن أجل التقدم في هذا المجال تجهد معظم المجموعات والكوادر المكونة للثورة والمنتظمة بالألوف في مجموعات واتسأبية من أجل تنظيم الصفوف، حيث تتوالى إجتماعات التنسيق في ما بينها عبر وسائل التواصل الاجتماعي في زمن كورونا، لتشكيل جبهة معارضة ثورية تنتقل من حالة المطالبة بالحقوق، الأمر الذي حصل في المرحلة الأولى من الثورة، إلى وضع برنامج مشترك سياسي اقتصادي، مالي اجتماعي للتغيير تحت سقف الدستور، مع لحظ ما يجب تعديله وتطويره فيه من أجل قيام دولة لبنان الجديد، عشية إنتهاء مئويته الأولى واستقبال مئوية جديدة، لبنان دولة المواطنة التعددية الديموقراطية، دولة الرعاية الاجتماعية، دولة الحق.

إن قيام نظام حوكمة دستوري نظيف من المحاصصات الطائفية ومكرس لمبدأ فصل السلطات وحافظ لاستقلال القضاء، سوف يضع لبنان حتماً على سكة استعادة العافية والتطور والتقدم وانهاء حالة رهن لبنان لحسابات إقليمية ودولية.

الثورة في زمن كورونا تتنظم، ومع تبدد جائحة كورونا، الثورة راجعة بإذن الله بقوة وتصميم على التغيير الجذري، ما بعد 17ت١ 2019 سيكتب تاريخ جديد للبنان. ومصير الذين عاثوا في البلد فساداً مصيرهم مزبلة التاريخ وخلف القضبان.