سعيد غريّب

ماذا لو فسد الملح؟

12 تموز 2023

02 : 00

عرف لبنان على مدى أكثر من ثمانين عاماً، أي منذ فجر الاستقلال، ثلاث مراحل سياسية. الأولى بدأت عملياً وواقعياً في العام 1943 وطبعتها المارونيّة السياسيّة. والثانية انطلقت عملياً وواقعياً في العام 1993، وتميّزت بالسنيّة السياسيّة. والثالثة أقلعت عمليّاً وواقعيّاً في العام 2005، وما زالت حتّى اليوم تحت مظّلة الشيعيّة السياسيّة. الأولى اغتيلت في الرابع عشر من أيلول 1982. والثانية اغتيلت في الرابع عشر من شباط 2005. أما الثالثة فلا تزال تعمل بكلّ محرّكاتها وأقصى سرعتها وكامل مقوّماتها، غافلة أنّ الدنيا دائرية وتعيد دورتها.

إنّ الموارنة ينظرون اليوم إلى أنفسهم وحالهم وحواليهم، فلا يرون سوى حزن في أنفسهم، وتردّ في حالهم، وتبخّر للمسيحيين من حواليهم. وإن سئلوا ماذا فعلتم بلبنان؟ وماذا عن صورة المرحلة الاولى ومآلها؟ وهل لا تزال العبارة الشهيرة «إن الموارنة ملح لبنان، فإذا فسد الملح فبماذا يملّح»، صالحة؟

لسنا هنا في معرض جلد الذات. إنّما في نظرة ناقدة لوقائع الحالة المارونية على مدى عقود، نسأل أنفسنا عما أدّى إلى تقهقر في احوال الطائفة. لقد قادها زعماء وكبار، صرفوا العمر في لعبة السياسة الضيقة والنكدة حتى تغلّب الخاص على العام، وتضررت مصلحة لبنان، فيما وحده رجل الدولة مكروه عندهم وفي وجدانهم، لأن « جبلتو ثقيلة».

لقد أنهكت الحرب وما سبقها وما أعقبها الموارنة شعباً وزعماء. أضعفتهم تسوية الطائف، ثم استقالوا من الدولة ووظيفتها، يوم قرروا مقاطعة الانتخابات النيابية في العام 1992، وتقلّص عددهم بفعل التهجير والهجرة، وكبرت جروحهم رغم مرور عقود على قتالهم مع الآخرين، وورمت أحقادهم بفعل حروب الإلغاء التي بدأت قبل خمسة وأربعين عاماً، واستمرّت سياسياً واجتماعياً واعلامياً بأبشع صورها. إنّ ايمان الموارنة بزعمائهم بلغ حدّ التصديق بأن تمثال السيدة العذراء في حريصا غيّر وجهته واستدار ربيع العام 1968، لمجرد اعتبارات انتخابية، ما أدّى إلى الاطاحة بفؤاد شهاب باني دولة لا نزال نغرف من فضلاتها حتى اليوم. كما إنّ ايمانهم بزعمائهم أنساهم في لحظة نظافة الياس سركيس وذكاء شارل حلو، لأنّهما ليسا «قويين». لا يريدون أن يعرفوا أنّ أي رئيس «ضعيف» يمكن أن يكون «قوياً جداً» اذا التفّ قادتهم حوله ودعموه متنازلين له وللدولة عن مرجعياتهم الشعبية.

لما خُيّروا بين مخايل الضاهر والفوضى، اختاروا الفوضى وما نتج عنها من حربين مدمّرتين واتفاق أخذ منهم الدور والرسالة. يريدون رئيساً قوياً، وحتى الساعة لم يتمكّنوا من تحديد مفهوم القوة، وماذا تعني هذه القوة لدى الرئيس، وتجربة 2016 خير دليل. لم ينتبهوا إلى أنّ الحلف الثلاثي، الذي كان يضم ثلاثة أقوياء، كميل شمعون وبيار الجميل وريمون اده، لم يتمكن رغم العظمة التي بلغها، من ايصال أحدهم إلى الموقع الاول ففضّل الثلاثة الاتيان برابع من كتلة الوسط، هو سليمان فرنجية؟

إنّ المنطق لم يعد صالحاً والناس تنظر إلى بعضها البعض وكأنها لا تنظر، لا تفهم على بعضها البعض، لا تسمع غير ما تريد سماعه. إنّ محنة لبنان كبيرة، وحزنه كبير، ومخاوفه أكبر، والموارنة جزء من شعب لبنان «العظيم» وجدوا في الأساس في لبنان ليبقوا فيه، ومن هاجر لم يفكر طويلاً ليعود إليه. هم اليوم متمسكون به وغير متمسكين بالبقاء فيه. أسّسوا لبنان لأنهم كانوا سادة الحوار، وفي الوقت عينه ملح لبنان وملح العروبة.

واليوم، يفقد المثقفون الموارنة الغائبون والمغيّبون الثقة بأهلية زعمائهم وقادتهم ويجدون أنفسهم في دفاع لا قيمة له عن قضية لا يعرفون ما هي بالضبط. اليوم، كل الخشية من أن يكون الملح قد فسد، أو على وشك أن يفسد لأنهم مختلفون، ومن أنّ قوتهم تزول لأن جمعهم أضحى تمثيلية.

مأساة لبنان لا شبيه لها، لأن هناك أكثر من خمسين شخصية مارونية مرشحة للرئاسة وكل واحد من هذه الشخصيات يعتبر نفسه قادراً إذا وصل على وضع حد للمأساة. لعل هذه مأساة المآسي. وللحديث صلة...


MISS 3