عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الإبتذال بصفته قيمة قائمة بذاتها!

12 آب 2023

02 : 02

لوحة للفنّان سمير الصايغ

نلتفت حولنا ونتساءل ما الذي يحدث اليوم على مستوى الثقافة والإبداع، وهل أنّ أسئلة الإبداع تغيّرت مع مرور الوقت ومع تَحَكُّم المال، أكثر فأكثر، بظروف الإنتاج الأدبي والفني، من أوّل خطوة إلى آخر خطوة؟

قبل أن يصبح المجال الثقافي والإبداعي لعبة في يد المال، كان المبدعون مشغولين بأسئلة من نوع آخر. ولقد عبَّرَ كتّابٌ وفنّانون منذ القِدَم، خصوصاً في القرنَين الماضيَين، عن العلاقة بين الإدراك والحُلم. فالهدف الأوّل، بالنسبة إلى المبدع، ليس الإبداع في حدّ ذاته، وإنّما الفهم والإدراك من خلال طَرق أبواب المجهول، والاقتراب من ألغاز العالم الذي نعيش فيه وننتمي إليه. هنا، يلتقي الحلم والعلم، وهنا تكمن قوّة الفنّ الحقيقي. وما نشاهده من أعمال إبداعيّة عظيمة، في جميع الحقول والمجالات، ما هو إلّا السعي إلى إدراك الذات الداخليّة، والطريق الذي يأخذنا من المرئيّ إلى اللامرئيّ، إلى الآفاق التي تُلوِّح لنا من بعيد. وهذا ما أشارت إليه الشاعرة اليونانيّة سافو منذ أكثر من 2600 سنة عندما عبَّرت عن تَوقها إلى ملامسة السماء واحتضانها بذراعيها.

في القرن التاسع عشر، لاحظ الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، صاحب الرواية الشهيرة «مدام بوفاري»، أنّ الروائيّ هو الذي يريد أن يختفي وراء نتاجه. أن يصبح النتاج وجهه الحقيقي وهويّته، وإذا فعل الكاتب عكس ذلك، فهذا يعني أنّه يعرّض عمله الإبداعي للخطر. هكذا كانت تتقدّم، في أحيان كثيرة، عناوين المؤلّفات أسماءَ مؤلّفيها. وثمّة من رأى أنّ النتاجات العظيمة كانت أكثر نضجاً وذكاء من كتّابها أنفسهم، لأنّ الكاتب، لحظة كتابتها، يكون في حالة إنصات تامّ للذات ولموجودات الكون. هذا الإنصات العميق اتّخذ عند البعض اسم الوحي لإعطاء صفة ما فوق واقعيّة، بل ما ورائيّة لفعل الكتابة والفنّ. لكن، ما الذي يبقى من هذه المواقف مع تحوّلات مسار الاقتصاد والعالم، وصعود الإعلام الجديد ووسائل التواصل؟ وأين هي الحداثة الآن بعد أن كانت صورة لطريقة تفكير جديدة ولمواجهة السائد ونقض الأفكار المسبقة؟

أشياء ومفاهيم كثيرة بدأت تتغيّر في العقود الأخيرة، بما في ذلك التعاطي مع الثقافة والإبداع. ولقد قامت وسائل الإعلام، خصوصاً شاشات التلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعي، بدور كبير في هذا الشأن، وساهمت في إخضاع الثقافة لمنطق المردوديّة المادية، فصارت النتاجات الأدبية والفنية تحتجب وراء أصحابها، بعد أن أصبح المطلوب من المبدع، لكي يحظى بالنجاح والشُّهرة، أن يكون مهرّجاً ومقاولاً قبل أن يكون كاتباً أو فنّاناً.

هاجس وسائل الإعلام بلوغ أكبر نسبة من المشاهدين والمستمعين بصفتهم قوّة استهلاك كبيرة للصور والدعاية والإعلان، ولذلك تعمل هذه الوسائل على جعل برامجها ومسلسلاتها في متناول الجميع، أي في المستوى الأكثر هبوطاً، وهذا ما ساهم في الرفع من «قيمة» الغباء وتكريس الابتذال. في هذا المناخ العامّ، أصبح الابتذال قيمة قائمة بذاتها ومعياراً أساسياً للنجاح. أصبحت قيمة المبدع تُقاس من خلال الجوائز وقوائم الكتب الأكثر مبيعاً، والقيمة الفنية بمقدار ما يتربّع العمل الفنّي على عرش المال، وإن كان ذلك على حساب النوعيّة الأدبيّة والفنيّة. ووجد المبدع نفسه داخل هذا السباق المحموم في إرضاء قانون الكمّ والحصول على إعجاب النسبة الكبرى من المتابعين. هكذا انتصر الفنّ الهابط وأصبح النموذج الذي يُحتذى. وأخذ يتغيّر معنى الكتابة والفنّ والمعنى الثقافي ككلّ. صار يُعلَن عن الأدب بالأرقام، وبالأرقام يتمّ التداول في الفنون التشكيليّة. وإذا كان بعض رجال الأعمال يُقبل على شراء الأعمال الفنية فلأنّ الاستثمار في هذا المجال معفى من الضرائب.

في غياب الحسّ النقدي الموضوعي وعدم التدقيق في مصادر المعلومات، يصبح من السهل تصديق أيّ خبر تقدّمه تلك الوسائل التي باتت تحتلّ الفضاء العامّ وتفرض أخبارها وقوانينها وتوجّهاتها وفقاً لحسابات ومعايير خاصّة. هكذا تملأ الأفكار المسبقة والمعلومات الخاطئة وسائط الإعلام، وتكاد تتحوّل قوّة ساحقة تجتاح جوهر الثقافة نفسها. في هذا السياق، يصبح الخطأ هو الصواب، والكذب هو الحقيقة. ويبقى السؤال: كيف يمكن أن ينتشر الابتذال وتسود التفاهة العالم بهذه الطريقة اليوم بينما يتضاعف التقدّم العلمي، والتطوّر التقني والتكنولوجي، ومن ضمنه الذكاء الاصطناعي؟


MISS 3