عبدالله عبد الصمد

الحلم الذي تجسَّد مكتبة في بريح

هادي يحيا... قصة إصرار وطموح

28 آذار 2024

02 : 00

المكتبة مفتوحة
في خضم الصراع الدائر في لبنان بين ثقافتَي الموت والحياة، بين نهجَي الحرية وتبعية المحاور، فوق ضجيج الهموم المعيشية والإجتماعية والسياسية، إنطلق صوت أحد أصحاب الإرادة الصلبة ليقول إن لا مستحيل أمام الإصرار، وأن ما زال في لبنان متسع لتحقيق الأحلام. هادي يحيا، من أصحاب الإرادة الصلبة، أو أصحاب الهِمَم، افتتح مكتبته الخاصة نهار الأحد في 17 آذار 2014. «مكتبة هادي يحيا» لا تشبه المكتبات التجارية. ليست مخصصة لبيع الكتب. هي عبارة عن مشروع يوفر مشاركة مصادر المعلومات بين الناس، فغايته كما يقول: «أن يصل الكتاب للجميع».

كغيره من الشباب، طالما حلم هادي بأن يؤسس عمله الخاص، وكان شغوفاً بالكتب، فاتخذ منها مدخلاً لتجارة صغيرة، حيث كان يجمعها ويبيعها. ولما لاحظت عائلته الصغيرة جديته وشغفه بهذا العمل، شاركته مكتبتها الخاصة، بل قدّمتها له كاملة، ليعزّز بها تجارته الصغيرة. ثم تبعها الأصدقاء المقرّبون، فرفدوه بالكثير من الكتب.

شارك في العديد من المعارض المحليّة، حتى بات اسمه معروفاً، ولاقت كتبه رواجاً بين محبي القراءة، فدخل عالم التسويق الرقمي من بوابة Instagram، حيث أسس أولى صفحاته الإعلانية في العام 2019، ووفّر خدمة التوصيل لزبائنه.

الكتاب للجميع

أتت ثورة 17 تشرين في العام ذاته، فانخرط في صفوف رفاقه، وافترش الطرقات لليالٍ عديدة، و»كان صاحب حضور فاعل، يتمتّع بمسؤولية اجتماعية عالية»، كما تقول عنه النائبة حليمة قعقور.

لم تُثنِهِ حالة الإرباك السياسي والاقتصادي التي يعيشها لبنان منذ نهاية العام 2019 وحتى اليوم عن تحقيق حلمه بتأسيس مكتبة حقيقيّة، فقدَّم بمساعدة شقيقه «علاء» فكرة مشروعه الى عدة منظمات غير حكومية، علّه يحظى بدعم ماديّ يمكّنه من الانطلاق.

تم قبول المشروع من قبل «إمداد»، وهي مبادرة مجتمعية، تعمل في لبنان ضمن إطار برنامج prospects، وهي شراكة عالمية تدعمها حكومة هولندا. «فقدّمت له منحة مكّنته من تحقيق حلمه الذي أراد منه غايتين، الأولى: تأسيس عمل خاص به يكون مفيداً للجميع. والثانية: لإثبات أن أصحاب الإرادة الصلبة إنما هم كغيرهم من أفراد المجتمع لديهم طموحات ويمكنهم تحقيقها»، وفقاً لما قاله شقيقه علاء لنداء الوطن.

وتابع، أن فكرة المكتبة التي راودت هادي، كانت فريدة من نوعها في بلدة بريح، بل في الجبل ككل، إذ لا يوجد مكتبة خاصة تعتمد إعارة الكتب في كل مناطق الجبل. فالمكتبة الوطنية في بعقلين تابعة مباشرة لوزارة الثقافة، والمركز الثقافي الفرنسي في دير القمر تابع للسفارة الفرنسية. وحدها مكتبة هادي يحيى مبادرة خاصة توفّر الكتب للجميع.

تعمل المكتبة بثلاث طرق لإعارة الكتب. أحد أقسامها مخصّص للكتب التي تدخل في نظام الاشتراك (وهو رسم رمزي محدد بمبلغين، حسب كمية الكتب المستعارة، ثلاثة دولارات شهرياً، أو خمسة). القسم الثاني، يعتمد الإعارة المجانية، يضمّ كتباً مقدّمة من بعض الأشخاص ليقرأها الجميع مجاناً. والقسم الأخير مخصّص لكتب الأطفال، وهو قسم مجاني أيضاً، وُجد لإغناء الثقافة لدى الأطفال، ومساعدتهم في سنواتهم الدراسية، حيث يفسح لهم المجال بمذاكرة الواجبات المدرسية (after school). كما ترحّب المكتبة بجميع الزوار للمطالعة الداخلية مجاناً.

يوضح هادي، أن الرسم الذي تتقاضاه المكتبة، إنما هو لتأمين المصاريف اليومية التي يتطلبها العمل. فالمكتبة توفّر التيار الكهربائي بشكل دائم ومستمر، والإنترنت بسرعة وجودة عاليتين، ومساحات للقراءة والمطالعة وعقد الاجتماعات أو الندوات.

بتوقّف خدمة البيع، حافظ هادي على الكتب التي في حوزته، فانطلقت المكتبة يوم افتتاحها بألف كتاب، وعدد من الموسوعات، وأكثر من مئة دراسة، وخمسين قاموساً، وعدد لا يمكن تحديده من كتب الأطفال كونها في زيادة دائمة وسريعة، وفق قوله. غالبيتها مقدّمة من الأصدقاء والعائلة وأشخاص من جميع أنحاء لبنان. وهي تعتمد اللغات الثلاث، العربية والانكليزية والفرنسية.

يقول شقيقه علاء إن تحقيق الفكرة واجه عائقين أساسيين، أولهما مادي، وثانيهما تقبُّل المجتمع لهادي كصاحب مشروع ثقافيّ، فتمكينه كان تحدياً جدياً واجهه بإرادته وبمساعدة الأهل والأصدقاء. لكن في النهاية، المشكلة المادية انقضت بالحصول على المنحة. وعقبة تمكينه تخطاها بنفسه بإصراره وجرأته.

اليوم، وبعد تحقيق الهدف الكبير، رسم هادي هدفاً مستقبلياً آخر، وهو أن تصبح المكتبة بيئة حاضنة لشريحة واسعة من القرّاء، وأن تشكّل معهم مجموعة ثقافية متماسكة. والأمل بأن يصل بمكتبته الى احتواء خمسة آلاف كتاب. حافزه، أنه تمكن خلال السنوات الأخيرة من بيع أكثر من هذا العدد، لذلك لا يرى الوصول إليه مستحيلاً في المدى القريب.

من خلال تجربتهم، يقول علاء، لا خوف على الكتاب الورقي بأن يحلّ محله الكتاب الرقميّ في المدى المنظور، ولا خوف على المكتبات رغم اجتياح الإنترنت لمعظم البيوت اللبنانية. برأيه، ستبقى المكتبات قبلة القراء والباحثين، للوصول الى المصادر والمراجع الدقيقة والموثوق بها. لكن ذلك لا يمنع من اعتماد الإثنين معاً، فالمكتبة تؤمن إنترنت بجودة عالية، وتأمل بعقد شراكات مع مراكز أبحاث ودور نشر وإغناء المراجع الإلكترونية، ليسير الاثنان معاً، الورقي والرقمي، في اتجاه واحد وهو إغناء الثقافة والعلوم.





لا تضيّع العنوان



همَّشوا أصحاب الهمم


«في حزيران 1983 أقرّ المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية الاتفاقية رقم 1599 والتوصية رقم 168 بشأن التأهيل المهني للمعوّقين. ودعا في كل من الصكين الأخيرين الى معاودة الجهود لضمان إمكان حصول الأشخاص المعوقين على التدريب والعمل على قدم المساواة مع الآخرين». حسبما جاء في خلاصة ورشة العمل التي رعتها اللجنة النيابية اللبنانية لحقوق الإنسان بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في 20 تشرين الثاني 2008، ونشرتها منظمة الأمم المتحدة على موقعها الرسمي www.un.org.



والمعوّق بحسب المادة الثانية من القانون المتعلق بحقوق الأشخاص المعوّقين رقم 220 الصادر بتاريخ 29 أيار من العام 2000، «هو الشخص الذي تدنَّت أو انعدمت قدرته على ممارسة نشاط حياتي هام واحد أو أكثر، أو على تأمين مستلزمات حياته الشخصية بمفرده. أو المشاركة في النشاطات الاجتماعية على قدم المساواة مع الآخرين، أو ضمان حياة شخصية أو اجتماعية طبيعية بحسب معايير مجتمعه السائدة...».



وفي حين يفرض هذا القانون على الدولة «أن تُعنى بشؤون المعوّقين في جميع المجالات ومنها العلمية والمهنية والصحية والاجتماعية»، بحسب المادة السادسة منه. وأن تحترم حقّهم في العيش في بيئة مؤهلة، «بمعنى أن من حقّ كل شخص معوّق الوصول الى أي مكان يستطيع الوصول إليه الشخص غير المعوق» (المادة 33). وأن «تلتزم الدولة العمل على مساعدة الأشخاص المعوّقين للدخول في سوق العمل ضمن مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص» (المادة 68). أهملت الحكومات المتعاقبة تطبيقه. فبرأي النائبة قعقور، يجب على النظام أن يخلق فرصاً متساوية للجميع، وألا يترك أي مواطن خارج الرعاية. يجب أن يشمل الجميع دون تمييز. خصوصاً أن المادة 72 من القانون المتعلق بحقوق الأشخاص المعوّقين، فرضت على «لجنة تفعيل حقوق المعوقين» أن «تعمل على وضع آليات تشجع كل شخص معوّق يرغب بتأسيس مهنة حرّة».



لكن في ظلّ غياب الدولة عن مسؤولياتها بهذا الشأن، حصل هادي على فرصته بقوة إرادته ولم يحصل عليها من الدولة. فكافح لتحقيق حلمه وإنجاح تطلعاته وفرض على الجميع أن يكونوا خلفه في هذه المبادرة. وأضافت، لو أن هادي يحيا بظلّ نظام ديمقراطي طبيعي لكان حصل على دعم ورعاية من الدولة لتحقيق مشروعه.



آرمة المكتبة



تقصير الدولة عن تحمل مسؤولياتها تجاه الأشخاص المعوّقين، تمت الإشارة إليه في خلاصة ورشة العمل المذكورة أعلاه، حيث ورد في متنها التالي: «يُعتبر القانون رقم 220/2000، قانوناً متقدّماً بالمقارنة مع القوانين العربية، كونه يتضمن أحكاماً مفصّلة تحقّق سلامة وكرامة ورفاهية المعوّق في مجتمعه، بحيث يشعر الأخير بأنه جزء لا يتجزأ من ذلك المجتمع وبأنه يتمتّع بكامل الحقوق التي يتمتّع بها سائر الأفراد، فلا يشعر بأنه يستعطي رحمة ورأفة الآخرين، أو يستحصل منهم على مساعدات، كما لا يشعر بأنه يعيش بصورة منفصلة عنهم».



ليتابع النصّ في القسم المعنون بـ»الوضع الراهن في لبنان» ليقول: «لا تزال حقوقهم مهملة بالعموم». ويشير الى مَواطن الإجحاف والى أهم ما لم يُطبّق، بحسب الخلاصة: تسهيل إقراض المعوّقين لغايات سكنية. تأمين البيئة المؤهلة. توفّر خدمات إعادة التأهيل وخدمات الدعم. ضآلة الأرصدة المخصصة للشؤون الاجتماعية في الموازنات العامة. وقد أورد التقرير غيرها أيضاً. وخَلُصَ الى أن «حقوق الأشخاص المعوّقين في لبنان ليست متوفرة إلا عَرَضاً، فهي ليست متجذّرة في صلب البنيان الحقوقي والاجتماعي للدولة قياساً على ما يجب أن تكون عليه الحال بحسب المواثيق العالمية».



في هذا الصدد، تقول قعقور، إن هادي ومن مثله يئسوا من الدولة، وما عادوا ينتظرون منها تأمين الفرص، فراحوا يخلقون فرصهم بأيديهم. لكن نجاح هذه التجربة قد يجعل المسؤولين يعيدون حساباتهم لتصحيح أخطائهم بحق هؤلاء.



مع النائبة حليمة القعقور

بسطة



المجتمع يتّسع للجميع

«هو من نماذج الشخصيات التي أفتخر بصداقتهم». هذا ما قالته النائبة حليمة قعقور لـ»نداء الوطن» وتابعت، أن شخصيته المحبّبة والجريئة، جعلته يدخل القلوب بسلاسة. فعندما يكون الشخص من ذوي الإعاقة (وهي التسمية القانونية في الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان، بحسب قعقور)، ويعاني من مشاكل الاندماج في المجتمع، ويتمتع بكل هذه الثقة، ويتابع طموحاته ويسعى لتحقيقها، ويبوح بأفكاره بكل جرأة، يصبح مثالاً لكثُر من ذوي الإعاقة وممن يتمتعون بقواهم الطبيعية على حدّ سواء.

تجربة هادي، كما كُتُبه، ستصل الى الجميع، وستُثبت أن النجاح لا يرتبط إلا بمقومات النجاح، وهو ليس حكراً على أحد دون آخر. وأن المجتمع السليم هو فسحة لمشاركة الإنجازات وليس لمناقشة الحالات.

MISS 3