وينثروب رودجرز

مهد الحضارة بدأ يجفّ

17 آب 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

قناة ريّ جافة في منطقة رانيا في كردستان العراق - 2 حزيران 2022

حين يبلغ فصل الربيع ذروته في إقليم كردستان العراق، تتحول سفوح التلال من اللون البنّي إلى الأخضر بين ليلة وضحاها. تتدفق التيارات الموسمية مع المياه، فتنتج شبكة من الروافد التي تصبّ في نهرَي دجلة والفرات التاريخيَين.



في أحد أيام الجمعة من شهر آذار الماضي، قاد نبيل موسى مجموعة من الشباب لقطع مسافات طويلة في الطبيعة. هو اعتبر هذا النشاط أفضل طريقة لتعليمهم أهمية دورهم في حماية النظام البيئي الذي يزداد هشاشة في تلك المنطقة. إنه جزء من الخطوات البسيطة التي يتخذها لمساعدة مجتمعه على فهم آثار التغير المناخي، والتلوث، والجفاف.

رسمياً، يشغل موسى منصب حارس المياه في كردستان العراق، وهو جزء من فريق يُعرَف باسم «تحالف حراس المياه». تشمل هذه الشبكة الشعبية العالمية ناشطين في مجال البيئة، وتشتق في الأصل من جماعة أسسها صيادون في نيويورك، في العام 1966، لتنظيف نهر هادسون. هو يشرف أيضاً على المبادرة المحلية «تجربة البرّية» التي تساعد الناس على التواصل مع عالم الطبيعة، ويشارك في نشاطات فنية محلية.

كانت المجموعة التي ترافقه تتألف من 15 لاجئاً من بلدة القامشلي الكردية في شمال شرق سوريا. هم يعيشون راهناً في مخيم عربت، في محافظة السليمانية، حيث استقر حوالى 9 آلاف نازح عراقي ولاجئ من أكراد سوريا بعد هربهم من تنظيم «الدولة الإسلامية» وتدخّل الجيش التركي. يقيم جزء كبير منهم هناك منذ سنوات وتتراجع فرص عودتهم إلى ديارهم.





اصطحب موسى المراهقين في ذلك اليوم لقطع مسافات طويلة في ممر «كاني شوك» الذي يعبر قمة جبل تقع على بُعد ساعة بالسيارة في شمال مخيم عربت. حذرهم موسى من صعوبة الرحلة.

بَنَت تركيا، وإيران، وسوريا، والعراق، سدوداً كثيرة حول الأنهار التي تصبّ في حوض بلاد الرافدين، وتتعامل مناطق المصبّ مع تراجع تدفق المياه نحوها. كذلك، أدت إعاقة المجاري المائية إلى تغيير نظامها البيئي، فاختلفت درجة الحرارة والتركيبة الكيماوية هناك، وتدمرت موائل الأسماك، واختفت حيوانات برّية أخرى تحتاج إلى الأنهار للبقاء على قيد الحياة. بدأ الناشطون في أنحاء المنطقة يدقون ناقوس الخطر بسبب تراكم أضرار التغير المناخي، والجفاف، وعواقب التلوث على البيئة والسكان المحليين. لا مفر من أن يؤثر أي تغيير في أحد أجزاء المستجمعات المائية على جميع الأجزاء الأخرى. قد يتحمّل سكان مناطق المصبّ كلفة خيارات مناطق المنبع أو إخفاقاتها في نهاية المطاف.

خلال مقابلة عبر الهاتف، قال سلمان خيرالله، ناشط عراقي في مجال البيئة وحقوق الإنسان تعاون مع موسى في نشاطات متكررة: «نحن نتكلم عن البيئة من منظور سياسي، واقتصادي، واجتماعي». خيرالله هو واحد من مؤسسي جمعية «حماة دجلة» التي تحصل على معظم تمويلها من مؤسسات أجنبية. يضيف خيرالله: «حين نتكلم عن المياه والبيئة، نحن نربط هذه المواضيع بفرص العمل، ومكافحة الإرهاب، والبنية التحتية. نحن نربطها بما يريده الناس».

أصبح خيرالله ناشطاً بعدما هجّره الاقتتال الطائفي مع عائلته من حي الدورة في جنوب بغداد، في العام 2006، فاضطروا للانتقال إلى البصرة حيث أصبح خيرالله متطوعاً في المنظمة غير الربحية «طبيعة العراق» التي تُعنى بشؤون البيئة. حين زار الأهوار الجنوبية في العراق، لاحظ أن مظاهر الجفاف والتلوث تقضي على مواشي المزارعين وتُخرجهم من أراضيهم، وأبدى تعاطفه مع تجربة النزوح التي عاشوها.

تصنّف الأمم المتحدة العراق في المرتبة الخامسة على قائمة أكثر الدول عرضة لآثار التغير المناخي. يواجه البلد حالة من الجفاف المطوّل منذ العام 2020، وقد شَهِد ثاني أكبر موجة جفاف في آخر أربعة عقود في العام 2021. في الوقت نفسه، انحسر تدفق المياه نحو دجلة والفرات بنسبة تتراوح بين 30 و40%، وأصبحت نصف الأراضي الزراعية المحلية معرّضة للتصحر.

تكون فصول الصيف في هذه المنطقة حارة وجافة بدرجة فائقة، ما يجعل أمطار وثلوج الشتاء أساسية لتأمين المياه لملايين الناس. في أول ثلاثة أشهر من العام 2022، كانت 98% من الأُسَر العراقية تعيش في مناطق تَقِلّ فيها الأمطار. وفق معطيات البنك الدولي، من المتوقع أن تتوسع الفجوة بين إمدادات المياه المتاحة والطلب عليها في العراق بمعدل يتراوح بين 5 و11 مليار متر مكعب بحلول العام 2035، ما لم يتخذ المعنيون إجراءات عاجلة للحفاظ على المياه وزيادة تدفقها من إيران وتركيا.

تترافق فصول الشتاء الجافة مع عواقب طويلة الأمد، فهي لا تسمح بالتعويض عن النقص وإعادة ملء المياه الجوفية. قد يكون الجفاف الذي يمتد لسنوات عدة كارثياً بمعنى الكلمة. بدأت موارد المياه الجوفية التي كانت تُسحَب بسهولة من السطح سابقاً تُستعمل لتأمين مياه الشرب، وريّ الأراضي، واستخراج النفط، وتستلزم هذه العمليات تعميق الآبار تدريجاً. في أربيل، عاصمة إقليم كردستان، تُحفَر الآبار على عمق 2300 قدم تحت الأرض لاستخراج المياه.

تقع البصرة على الطرف الجنوبي من المستجمعات المائية في دجلة والفرات، وهي ثاني أكبر مدينة في العراق. تتجاوز درجات الحرارة فيها عتبة الخمسين درجة مئوية طوال أيام متواصلة أحياناً خلال الصيف. في العام 2018، دخل 118 ألف شخص على الأقل إلى المستشفى بسبب تلوث مياه الشرب في المدينة، ما أدى إلى إطلاق احتجاجات واسعة. ومع تراجع المياه العذبة التي تصل إلى نظام الأنهار، بدأت المياه المالحة التي تأتي من الخليج العربي تخترق مناطق أبعد في أعلى ممر شط العرب المائي، ما يؤدي إلى تسمّم الأراضي الزراعية في أنحاء جنوب العراق. في غضون ذلك، يتراجع حجم الأهوار الجنوبية سنوياً، علماً أنها تضررت أصلاً بعد جفاف أجزاء كبيرة منها في عهد الزعيم العراقي السابق صدام حسين.

في الروافد العليا لنظام دجلة والفرات، تعمل تركيا على بناء سلسلة من 22 سداً كجزءٍ من «مشروع جنوب شرق الأناضول». في العام 2018، افتتح البلد سد «إليسو» الضخم، فتدفقت المياه نحو بلدة «حسن كيف» التي تحمل أهمية أثرية مقابل منع تدفقها نحو العراق. كذلك، تملك إيران شبكة سدود واسعة وتتعدد مشاريعها لإعادة توزيع المياه، بما في ذلك سد «داريان» في نهر سيروان العلوي ونفق «بادين أباد» الذي يحوّل مجرى المياه من المستجمعات المائية في دجلة نحو محافظات إيران الداخلية لريّ مزارعها الصناعية.

تتوق حكومة إقليم كردستان إلى الحفاظ على الموارد المائية في ظل تراجع تدفق المياه من دول المنبع المجاورة، لذا أطلقت برنامجاً خاصاً بها لبناء السدود.





يطرح التلوث أيضاً مشكلة كبرى. أصبح نهر «تنجيرو» الذي يتدفق في جنوب مدينة السليمانية ملوّثاً بمخلفات مياه الصرف الصحي، ومنتجات التنظيف، والزيوت، والمعادن الثقيلة من المصانع، ومكبّات النفايات، والمصافي. ثم تتدفق المياه الملوثة نحو خزان سد «دربنديخان» الذي يؤمّن مياه الشرب لـ850 ألف شخص. تصل الملوثات من هناك إلى المصب في نهر سيروان السفلي، وصولاً إلى دجلة والخليج العربي في نهاية المطاف، بعد مرورها بآلاف المناطق الأخرى.

أصبح العراق بأمسّ الحاجة إلى حماية البيئة، لكن يترافق هذا النوع من النشاطات مع مخاطر عدة. قبل أسابيع من الرحلة التي نظّمها موسى، خطفت إحدى الميليشيات الناشط البيئي العراقي البارز جاسم الأسدي، الذي جعل من إنقاذ الأهوار الجنوبية المحلية هدف حياته، حين كان يمرّ بطريق سريع خارج بغداد. ثم أُطلِق سراحه بعد 15 يوماً، لكنه تعرّض أثناء احتجازه «لأسوأ أشكال التعذيب بالكهرباء والعصي»، كما قال خلال مقابلة تلفزيونية بعد إطلاق سراحه. رفض أفراد عائلته الكشف عن هوية المرتكبين علناً، خوفاً من الانتقام منهم.

كان خيرالله يعمل عن قرب مع الأسدي في منظمة «طبيعة العراق»، وهو يقول إن ذلك الناشط أصبح مستهدفاً بسبب عمله البيئي الذي أثّر على مصالح بارزة في جنوب العراق حيث لا يتحمّل المسؤولون أي انتقاد. في الوقت نفسه، يرتفع عدد المستهدفين في أوساط الناشطين، والصحافيين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، بسبب نشاطاتهم في أنحاء البلد. يؤدي انكماش هذه المساحة المدنية إلى تصعيب عمل الناشطين البيئيين من أمثال موسى، حتى أنه يطرح عليهم تهديداً مباشراً.

بالعودة إلى رحلة موسى، قاد هذا الأخير جماعته نحو ممر «كاني شوك». كانت الثلوج قد ذابت عن قمة جبل «بيراماغرون» وتسللت إلى الينابيع الجوفية، ثم انبثقت من كهوف الحجر الجيري على شكل مياه نقية أصلية ومتجمدة. هو دعا الشبان معه إلى التوقف بالقرب من حوض سباحة كبير، فأخذ الجميع استراحة هناك لأن الحرّ بلغ ذروته في تلك الفترة من اليوم.

يُطِلّ ذلك المكان على منظر شاسع للوادي في الأسفل. كانت المياه تتدفق على مسافة بعيدة من ذلك الموقع، حيث تلتقي المياه بنهر الزاب الصغير ثم تتدفق نحو دجلة، في شمال تكريت، وصولاً إلى الخليج العربي، على بُعد آلاف الأميال من المصبّ. اتضحت حينها معالم موجة غبار عادت وغلّفت إقليم كردستان في اليوم التالي، لكن اقتصر الجو على الضباب حتى تلك المرحلة.

تكلم موسى بطلاقة باللغة الكردية، واستعمل يديه للتشديد على أهمية كل نقطة في كلامه، فأخبر المشاركين بأن كمية الأمطار والثلوج هذا الشتاء لم تكن كافية لمحو آثار الجفاف. من المتوقع أن تذوب الثلوج على قمة جبل «بيراماغرون» قريباً، وستجف المياه النقية والباردة في المنطقة التي مروا بها. حين كان يتكلم، علا صوت أذان العصر من مسجد في البلدة المجاورة، وتوجّه الشبان على دراجاتهم النارية نحو منتزه لتمضية آخر ساعات النهار.


MISS 3