جيمي الزاخم

وثائقيّ عادل إمام: ذاكرة مصريّة بخيلة

24 آب 2023

02 : 00

سهم العمل أصاب الدائرة الحمراء الضيّقة؟
اِسمه كوّنتْه ستّون سنة من أعمال مسرحية، سينمائية وتلفزيونية تخطّت عتبة المئة. اِسمٌ برتبةٍ بألف نجمة. حاول الكثير تفكيكَ بريقها. آخر هذه المحاولات كان الوثائقيّ: «عادل إمام... ذاكرة مصرية». تبثّه منصةُ «شاهد». أنتجته قناة العربيّة. وأعدّته مديرة مكتبها في مصر رندة أبو العزم. يربط الوثائقيّ رحلةَ عادل إمام الفنّية بمراحلَ سياسيّة. فهل أصاب سهمُ العمل الدائرةَ الحمراء الضيّقةَ في مسيرة عادل إمام؟

الظروف الصحية حالت دون حضور إمام الذي «بدأ مسيرته على الخشبة في عهد عبد الناصر. ذاع صيته في حقبة السادات. وفي عهد مبارك تربّع منفرداً على قمّة الحياة الفنّية». ظهر بمقتطفات من مقابلات من الأرشيف مع رندة أبو العزم. آراء المشاركين رجّفت يد الوثائقي الذي يريد أن يُدخلَ خيطَ الأعمال الفنية في خرم الإبرة السياسية. أتَوْا بسردٍ عامّ لم يستخدمْ أدواتٍ حادّةً وصريحة في تشريح سنوات مملوءة بالعلاقات، الأسرار، الاشتباكات والتقاطعات. يؤكّد الصحافيّ حلمي النمنم وزير الثقافة المصري الأسبق أنّ «اللي عايز يدرس مصر بالثمانينات والتسعينات وأوائل القرن 21، ستكون دراستُه ناقصة دون الرجوع لأفلام عادل إمام». الوثائقيّ درسها دراسةً ناقصة. لم يقطف كلّ الحقائق. أتت بخيلة مع معلومات بقيت مكتومةً ومعلّقة بين الحنجرة والهواء.

«في أفلامه كان منحازاً للفقراء... يناصر طبقة مظلومة ترغب في أن تتحسّن أحوالها». نظريّةٌ لم تفصّل مراحلَ هذا التأثير وأسبابه. لم تنجح بربطه بسياقٍ اجتماعي سياسيّ يتمازج مع سينما- حسب المخرج السينمائيّ الأميركيّ ستانلي كوبريك- تُعيد تشكيلَ الواقع ولا تخلق واقعاً جديداً. غاب الكثيرُ من الوقائع عن واقع الوثائقيّ: بملامحه، عادل إمام نموذجٌ سينمائي ترجم تأثيرات نموذج اقتصاديّ حرّ أطلقتْه مصر عام 1971 مع الرئيس أنور السادات. وُلدت طبقةٌ جديدة من التجارة والمهن الحرّة. انسحق المواطنُ المصريّ العاديّ الذي رأى نفسه في عادل إمام الممثّل.

من فوق الغيوم لا من داخل البيوت، توجّه السرد نحو «إحنا بتوع الأوتبيس»(1979) الذي حمل «انتقادات لسياسات جمال عبد الناصر»، بعد انتهاء حقبة عبد الناصر وخنقِ أفكاره في عهد السادات الذي- وكما يروي عادل في حواراته - أهداه كلباً. طيلة 50 دقيقة، غاب تأثيرُ خصخصة القطاع السينمائي. ما سمح بتزيين شجرة الشاشة بأفلام تعتمد على مشاهد بلونٍ جنسيّ وإغراء دخله إمام بقُبله وتحرّشات رسّخها في كل سنواته التالية.

كان من البديهيّ أن يستحوذَ عهدُ حسني مبارك على مقاعدَ كثيرة في القطار التوثيقيّ. خلاله، تُوِّج «الزعيم». لقبٌ ناله بعد مسرحية حملت الاسمَ نفسه، و»قاربت شخصية معمّر القذافي». لا جديد قُدِّم تحت سقف علاقته الوثيقة المعروفة مع آل مبارك. تطرّق إليها المتحدّثون من زاوية أن عادل لم يكن أداةً بيد نظام ينتمي- كما كلّ الأنظمة - إلى عمالقة يرفعونه في جماهيريّتهم. أدرك إمام «الخطوط الحمر». لم نتوغّل في كواليس تجربته التي استمدّ منها قواعدَ اللعبة. انتقد المسؤولين وحاشيةَ الحكم دون الاقتراب من رأس الهرم وعائلته. مساحةٌ باركها مبارك لتكون نوعاً من التنفيس للمتلقّي. تطهيرٌ فنّي من الآلام بتهريب الأحلام.

ككلّ فصوله المذكورة أعلاه، الوثائقيّ أشعل أفكاراً وأطفأها قبل أن تترك جمرَها الدافئ عن موضوع الرقابة على الأفلام. أفلام كثيرة مَنعتْها الرقابة قبل أن تسمح بها بعد تدخّلات وأحداث تجنّبها السرد. هذا البخل في التعليل والتعليق لحق أيضاً بصنّاع الأفلام. استحضروا الكاتب وحيد حامد من الأرشيف وحيداً لثوانٍ: «إنّ الكوميديا هي فنّ نقد المجتمع. والكاتب ليس سائق توصيل طلبات». يؤكّد ما يُراد تأكيده: عادل إمام يعيش مع الشخصية ومشاعرها. ليس في خدمة أجندات ومصالحَ ضيّقة».

هذا البخل كسرتْه أحداثٌ شيّقة عن علاقته مع الإرهاب والجماعات الإسلامية. «لأوّل مرّة»، يكشف الوثائقيّ مع العضو السابق في الجماعة الإسلامية محمد كرّوم محاولةً لاغتيال عادل إمام: بعد عرض فيلم «الإرهابي» عام 1994، وفي إحدى زياراته لوالده المسجون كقياديّ في تنظيم الجهاد الإسلامي، نال كرّوم موافقةَ القياديّ عبود الزُّمَر لاستهداف النجم السينمائي (الزّمر أصدر بياناً نفى الواقعة. في المقابل، المعدّة عادت وأكّدتها). «كانت الخطة أن يُقتل في طريقه إلى مسرح الهرم. لكن وبتهمة أخرى، ألقي القبضُ عليّ، قبل كشف المخطّط الذي لم يُنفَّذْ بسبب الحراسة المشدّدة حول إمام: حراسة مصرية وغير مصرية». (التهديد كان جديّاً. ونفوذ إمام أمّن له الحماية بأيادٍ وطنيّة وأجنبية؟).

في الإطار نفسه، تخرج حادثةٌ شهيرة من الثمانينات. استهدفت الجماعاتُ الإرهابية محافظةَ أسيوط في الصعيد المصريّ ونكّلت بأعضاء فرقة مسرحية شبابية. كردّ فعل داعمٍ، قرّر عادل عرضَ مسرحيته «الواد سيد الشغال» في المنطقة. مصطفى فقي- السكرتير السياسي لمبارك آنذاك- يؤكّد أنّ «المخاوف كانت جدّية من أن يُقتل إمام. والأجهزة الأمنية طالبته بالعدول عن الزيارة... بعد إصراره، تحوّلت المنطقة إلى ثكنة عسكريّة». (لكنّ السؤال الذي يُطرح: هل حصل على معلومات أو ضمانات طمأنتْه؟ أم أنّه خاطر بالمواجهة في حقبة احتشد الإرهاب والتطرّف الديني في أعماله؟).



أشهر مسرحيّاته

من الوثائقيّ: إمام مع والديه


من الثمانينات نصل إلى كانون الثاني 2011. سقط نظامُ مبارك. وُضع عادل إمام على اللائحة السوداء كمحسوبٍ عليه. انتقده شبابُ ميدان التحرير. الجماعات الإسلامية التقطت الحكمَ والفرصة. بعد وصول مرسي إلى الرئاسة، صدر حكمٌ لم يُنفّذْ، يقضي بسجن إمام وتغريمه بتهمة ازدراء الأديان. مرحلةٌ من مجموعة مراحلَ عاينها النقّاد والإعلام سابقاً. جمعها الوثائقيُّ بجردةٍ عامّة. وأعاد كتابتها بقلم رصاص رماديّ، يمحو أكثر ممّا يخطّ. يُخفي علبةَ الألوان البرّاقة. فتأتي الجماليةُ الفنّية باهتةً خجولة. لم تلتقط وهجَ نجمٍ خاطب خمسة أجيال. خلّد اسماً يلمع ويتلألأ في قلوب محبّيه. وكلما كبُر الاسم وتعاظمت المحبّة، على الدراسات تحمّل مسؤولية كبرى مع تحليلات ومحاولات وجب عليها أن تتجدّد. تصارح بجرأة وكرم. فلا تبخُل بالتفاصيل التي تغيّر أو تكرّس. وتُعطي لكلّ صاحب إبداع الحقَّ والتعب والحبَّ.


MISS 3