مصطفى علوش

هؤلاء الناس

25 آب 2023

02 : 00

«وهكذا في يوم ما...

تتوهج عيوننا بنور

يدعوه المؤمن نور الله

والعاشق يسميه الحب

ويراه الفقير في الصدقة

والشمس تدعوه النهار

وللشجعان طيبة القلب...»

(قصيدة الساحة، جاك بريل،

ترجمة خاصة بتصرف)

جميل صبح نهار الأحد، هو الوقت الذي أجبر نفسي فيه على النوم أكثر من المعتاد، فلا أتمكن إلا أن أنهض باكراً كما في يوم عمل عادي. لكن جمال الصبح ليس بالنوم المستطال، بل بالوقت المتاح للتفكير المتحرر من حصار اليوميات العادية البديهية. صبح نهار الأحد يخرجني من البديهيات إلى عالم التفكير في ما جعل البديهي بديهياً، وكيف يتحول الشطط قويماً، والحرام حلالاً، والسارق وجيهاً، والفاسد فاعل خير، والمسرف من مال مسروق كريماً، وزعيم المافيا مشيراً في شؤون الناس. وكيف يشَبّه قرصان يسرق ويغرق السفن، ببحار تتقرّح يداه من شد حبال الشراع، أو ضابط تقاعد وهو يملك عشرات العقارات، من غير تركة، وعسكري يجرجر نفسه إلى الخدمة مقابل معاش لا يكفي إلا ليمنع ذاته من ذل السؤال... فجأة، زاحمني سائق «توك توك» وهو يعاكس السير، فتساءلت من يستأهل الشتيمة أكثر، هو الساعي إلى رزقه، أم موكب الزعيم؟

ثم أبتسم عندما أتفكر بذاك المصري الشغوف الذي كان يهتف من كل قلبه «عظمة على عظمة يا ست» في حفلات أم كلثوم. فأقول لنفسي هل هناك فرح ونشوة أكبر مما شعر به ذاك المصري الذي لا اسم له؟ حتى وإن عرفنا اسمه لاحقاً، لكن ليس الإسم هو بيت القصيد، بل المقصود بكلامي، الذي قد لا يقرأه أحد، هو ذاك الإحساس بالدهشة والفرح بالطرب، الذي جعل من الرجل يهتف كطفل وليد تفتحت عيناه الواسعتان على النور.

ثم بدأت أرنم أغنية «هؤلاء الناس» لجاك بريل! تصورته وهو ينشدها على المسرح بحركاته المعبرة والعرق يتصبب منه كشلال. قيل إنّه توقف عن الإداء على المسرح قبل سنوات من وفاته في جزيرة اختارها بعيداً عن «هؤلاء الناس» لآخر لحظاته في الحياة. توقف بريل عن الأداء على المسرح لأنّ الأحاسيس التي كانت تجتاحه خلال إنشاده كانت ترهقه، بالرغم من المدخول الكبير الذي كان يجنيه من كل إداء.

تتحدث قصيدة «هؤلاء الناس» عن أنماط تصرفات البشر وطبائعهم بشكل عام، لكنها كانت لاذعة وعميقة ومثيرة للجدل. أبرز فيها بريل وجوه النفاق والإغراق في الماديات، والوحدة التي تأكل في صحون الناس، رغم كل البراقع التي يلبسونها لتغييب صورة ذاتهم وجوهرها. في القصيدة دعوة للناس لكي ينظروا إلى جوهر الأمور، بدل التلهي بفارغ الكلام والبديهيات، لأنّ إدراك الجوهر هو السبيل الوحيد لبلوغ الأصالة في وجودنا المحدود بين ولادة، لم نقرر السقوط فيها، وموت هو العدمية الشخصية المطلقة. كان أداء بريل على المسرح في تلك الأغنية مبهراً سنة 1966، ما جعلها لحظة مضيئة للفن والأدب الفرنسي المعاصر، لا تزال تذكر حتى اليوم عند قوم يتفكرون.

البديهيات الفارغة من الجوهر هي أن تفترض أنك شريف عفيف، ومع ذلك لا تسأل عن أصل ثروة من دعاك إلى حفل زفاف قبض فيه المغني، فقط في ساعة، مئات أضعاف ما يكسبه عامل يكدح طول النهار. «هؤلاء القوم»، عندما يلبّون الدعوة ولا يسألون، أو يسألون ويعلمون ويلبون الدعوة، رغم أنهم يعلمون، «هؤلاء الناس» هم عنوان النفاق.

أمّا أصحاب العرس، فهم من خوفهم من النظر في وجوههم في المرآة، أو رعبهم من التحديق في جوهرهم الفارغ، يهربون إلى حفلات مبالغ في بريقها وكرمها وبهارجها، لعلاج وحدتهم القاتلة مع فراغ ذاتهم. لكن، حتى لا يظن أحدهم أنّ الحسد هو ما يدفعني للقول عن هؤلاء، فالواقع هو أنني أحسد فقط ذاك المصري المغمور، الذي صرخ «عظمة على عظمة يا ست»، على إحساسه في لحظة طرب، فيما آخرون غارقون في بحر من المال يظنون أنّهم هم العظمة، وأنهم قادرون على إحياء حفلة أم كلثوم بالهولوغرام، ومع ذلك، ما زالوا يبحثون عن النشوة من دون أن يبلغوها.

وأحسد عامل النظافة على همته، وأنا أشاهده صباح يوم الأحد وهو يلتقط أعقاب السجائر من الشارع الغارق في بحر من القاذورات، التي أهملها ملتزم فاسد، قبض ثمن التزامه للم وعلاج النفايات، فتقاسم الأرباح مع متنفذ أقام بالمال عرساً غنى فيه مطرب لم يسمعه أحد في الحفل من كثرة الضوضاء. وأحسد من وضّب لي مشترياتي من متجر البقالة على صبره عندما شكر الله على نعمته، رغم أنّه كان يجرجر رجله المشلولة، وذاك الجندي المصلوب على حاجز وهو يتصبب عرقاً وهو يأكل سندويشاً لفته له أمه أو زوجته، فيما أصحاب المعالي والفخامة، الذين يصدرون له الأوامر، ينطنطون بين عواصم زاهرة ومكاتب مبردة ومآدب عامرة بما فيها من طيبات، في عرس تصاهر فيه فاسدون.

تصورت من أحسدهم يشبهون النبي أيوب في مرارتهم وعتبهم وغضبهم الأخرس، وهم يرون «هؤلاء الناس» الفاسدين يستمتعون بالصحة والثروة والأولاد، ويزوجونهم لأولاد «هؤلاء الناس» الذين يشبهونهم. فالفاسدون، أغنياء الحرب، يصبحون من قبيلة واحدة، مهما كان دينهم أو معتقدهم، كما أنّ تعساء الأرض هم من قبيلة واحدة أيضاً.

لجأت ساعتها إلى قلمي لأكتب مستذكراً نشوة سهرة بسيطة ومرتجلة، جمعتني مع أصحابي لنقاش قصائد لجاك بريل، ومن ضمنها «هؤلاء الناس»!


MISS 3