كريستالينا جورجيفا

ثمن تفكّك العالم... الإقتصاد العالمي ليس مستعداً للصدمات المرتقبة

6 أيلول 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

نواجه اليوم ظروفاً مضطربة في عالمٍ يزداد هشاشة رغم اغتنائه. أثبتت الحرب الروسية في أوكرانيا أننا لا نستطيع الاستخفاف بالسلام.

وجاءت جائحة قاتلة وكوارث مناخية متلاحقة لِتذكّرنا بهشاشة الحياة في وجه قوة الطبيعة. في غضون ذلك، تنذر تحولات تكنولوجية كبرى، مثل الذكاء الاصطناعي، بنمو مستقبلي كبير لكنها تحمل في الوقت نفسه مخاطر هائلة.

سيكون التعاون بين الدول أساسياً حين يصبح العالم أكثر عرضة للاضطرابات والصدمات. لكن بدأت مظاهر التعاون الدولي تتراجع، ويشهد العالم تفككاً متزايداً مع مرور الوقت: تبدأ هذه العملية بزيادة الحواجز أمام التجارة والاستثمارات، وتنتهي في أسوأ الحالات بتقسيم البلدان إلى كتل اقتصادية متنافسة.


تجازف هذه النتيجة بتبديد المكاسب الثورية التي حققها التكامل الاقتصادي العالمي. ينجم هذا التفكك عن عدد من القوى المؤثرة. في ظل تفاقم الاضطرابات الجيوسياسية، تتعدد اعتبارات الأمن القومي التي يفترض أن يراعيها صانعو السياسة والشركات، وهي تجعلهم يترددون في تقاسم التقنيات أو دمج سلاسل الإمدادات.

ساعد التكامل الاقتصادي العالمي في آخر ثلاثة عقود مليارات الناس على جمع الثروات وتحسين صحتهم وإنتاجيتهم، لكنه أدى أيضاً إلى خسارة الوظائف في بعض القطاعات ورسّخ مظاهر اللامساواة. هذه الظروف أجّجت الاضطرابات الاجتماعية، وسهّلت تطبيق السياسات الحمائية، وزادت الضغوط لإعادة الإنتاج إلى بلدان المنشأ.


يُعتبر تفكك العالم مساراً مكلفاً حتى في الظروف العادية، فهو يمنع معالجة التحديات العالمية الكبرى التي يواجهها المجتمع الدولي اليوم، أبرزها الحروب، والتغير المناخي، والأوبئة. مع ذلك، يطبّق صانعو السياسة في كل مكان تدابير تمعن في تقسيم العالم. قد يكون جزء من هذه السياسات مبرراً لضمان تماسك سلاسل الإمدادات، لكن ترتكز تدابير أخرى على المصالح الشخصية والسياسات الحمائية التي تضعف الاقتصاد العالمي في نهاية المطاف.


أصبحت كلفة تفكك العالم واضحة اليوم أكثر من أي وقت مضى: تزامناً مع انهيار التجارة وزيادة القيود، لا مفر من أن يتعرض النمو العالمي لضربة موجعة. وفق أحدث توقعات صندوق النقد الدولي، سيقتصر نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في العام 2028 على 3% فقط، وهو أقل توقّع يصدره الصندوق للخمس سنوات المقبلة في آخر ثلاثة عقود. ينذر هذا الوضع بمشاكل مرتقبة على مستوى الحد من الفقر وخلق فرص العمل وسط الفئات الناشئة من الشباب في البلدان النامية. كذلك، يجازف تفكك العالم بتدهور هذا المشهد الاقتصادي الهش أصلاً.


في ظل تراجع النمو، وتلاشي الفرص، وتصاعد التوتر العام، قد ينقسم العالم المثقل أصلاً بالمنافسات الجيوسياسية إلى كتل اقتصادية متنافسة أخرى. يعترف صانعو السياسة في كل مكان بالتكاليف التي ترافق السياسات الحمائية وفك الارتباط بين الدول. تهدف الالتزامات رفيعة المستوى بين أكبر اقتصادَين في العالم، الولايات المتحدة والصين، إلى تقليص مخاطر أي تقسيم إضافي. لكن لا تحمل محاولات كبح تفكك العالم طابعاً مُلحّاً بما يكفي.


قد تطلق جائحة أخرى أزمة اقتصادية جديدة في أنحاء بالعالم. في الوقت نفسه، قد تعزز الصراعات العسكرية، في أوكرانيا أو أي أماكن أخرى، انعدام الأمن الغذائي، وتزعزع أسواق الطاقة والسلع، وتفكك سلاسل الإمدادات. وقد تُحوّل أي فيضانات أخرى أو موجات جفاف حادة ملايين الناس إلى لاجئي مناخ. لكن رغم الاعتراف بهذه المخاطر على نطاق واسع، عجزت الحكومات والقطاعات الخاصة عن اتخاذ خطوات ملموسة أو ربما لا ترغب في التحرك أصلاً. إذا أصبح العالم أكثر عرضة للصدمات، يجب أن تزداد قوة الاقتصادات، فردياً وجماعياً. لكن تتطلب هذه العملية مقاربة متعمدة لتكثيف التعاون.


يُفترض أن يتعاون المجتمع الدولي مع الأطراف المعنية بطريقة منهجية وبراغماتية، وبدعمٍ من مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، فيسعى إلى إحراز تقدّم مستهدف يرتكز على المصالح المشتركة ومتابعة التنسيق في المجالات التي لا تتحمّل أي شكل من الجمود. يجب أن يُركّز صانعو السياسة على مسائل لا تقتصر على زيادة ثروات الدول بل تُعنى أيضاً بتحسين الوضع الاقتصادي للناس العاديين. ويُفترض أن يعززوا روابط الثقة بين البلدان حين تسنح الفرصة كي يتمكنوا من تكثيف التعاون في أسرع وقت عندما تقع أي صدمة جديدة.

هذه المقاربة ستفيد الاقتصادات الأكثر فقراً والأكثر غنى على حد سواء، كونها تدعم النمو العالمي وتضعف احتمال انتشار الفوضى عبر الحدود. حتى البلدان الغنية والأكثر نفوذاً ستجد صعوبة في التعامل مع العالم المفكك، ولن يكون التعاون في هذه الحالة مجرّد شكل من التضامن بل جزءاً من مصالح الدول أيضاً. يجب أن تبدأ المؤسسات المالية الدولية والمقرضون بتطوير آليات لحماية البلدان من أزمات الديون في حال وقوع صدمات كبرى.


تضطلع هذه الآليات بدور أساسي لمنع الدول من مواجهة مشاكل على صلة بأزمات السيولة بسبب الديون. تقضي فكرة واعدة بتطبيق نهج تعاقدي للتعامل مع الديون التجارية، ما يعني أن تشمل العقود بنوداً لتأجيل تسديد الديون إذا واجه البلد كارثة طبيعية مثل الفيضانات، أو موجات الجفاف، أو الزلازل. من واجب المدينين أيضاً أن يتخذوا خطوات استباقية لتخفيف المخاطر المطروحة وأن ينسقوا استراتيجية إدارة الديون مع سياستهم المالية.


ويجب أن تبدي الحكومات استعدادها لتصحيح الأخطاء المرتكبة ومعالجة مشاكل الديون الأساسية. سمح التزام زامبيا القوي بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لصندوق النقد الدولي مثلاً بتقديم دعمه المالي، وأصبح الدائنون الرسميون أكثر استعداداً لتخفيف أعباء الديون.



المعركة ضد تفكيك العالم مستمرة



لطالما لعب صندوق النقد الدولي دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي. إنها المؤسسة الوحيدة التي تحصل على صلاحياتها من 190 عضواً للقيام بتقييمات منتظمة وعميقة لاقتصادات الدول الأعضاء، وهي الأداة التي ترسّخ الاستقرار الاقتصادي والمالي وتُصدِر أهم التوصيات المرتبطة بالسياسات المعتمدة، كما أنها الملجأ الأخير لتلقي القروض عند الحاجة وتحرص أيضاً على المشاركة في حماية البلدان من الأزمات والفوضى.


في عالمٍ تشوبه الصدمات والانقسامات، يُعتبر انتساب الدول إلى هذا الصندوق ودوره في الإشراف على التطورات المتلاحقة ميزة كبرى. لكن يبقى صندوق النقد الدولي لاعباً واحداً في الاقتصاد العالمي، وهو جزء من مؤسسات مالية دولية ذات أهمية كبرى. لمواكبة إيقاع التغيير الحاصل في هذا العالم المنقسم، تحتاج السياسات والنماذج المالية التي يستعملها الصندوق إلى تحديث عاجل. تقضي أول خطوة أساسية بإتمام المراجعة العامة السادسة عشرة للحصص.


تُعتبر موارد الحصص في صندوق النقد الدولي (أي المساهمات المالية التي يدفعها كل عضو) من أهم أسس البنية المالية التي تجمع الموارد من جميع الأعضاء. تتحدد حصة كل عضو في الصندوق بحسب مكانته النسبية في الاقتصاد العالمي، ويراجع صندوق النقد الدولي موارد حصصه بانتظام للتأكد من أنها تكفي لمساعدة الأعضاء على التكيّف مع الصدمات المحتملة. تسمح زيادة الحصص بتأمين موارد دائمة لدعم الاقتصادات الناشئة والنامية وتخفيف اتكال الصندوق على خطوط الائتمان المؤقتة. يجب أن يتكاتف أعضاء صندوق النقد الدولي إذاً لتعزيز موارد الحصص في هذه المؤسسة عبر إنهاء المراجعة بحلول كانون الأول 2023. يُفترض أن يبذل الأعضاء الميسورون في صندوق النقد الدولي جهوداً حثيثة لتجديد الموارد المالية الخاصة بصندوق الحد من الفقر والنمو في أسرع وقت.


سبق ومنح هذا الصندوق تمويلاً من دون فائدة بقيمة 30 مليار دولار إلى 56 بلداً ذات مداخيل منخفضة منذ بداية أزمة كورونا، أي ما يساوي أكثر من أربعة أضعاف المستويات التاريخية. يُعتبر هذا التمويل أساسياً كي يتابع صندوق النقد الدولي تلبية حاجة أفقر أعضائه إلى الدعم. ولمعالجة المخاطر الاقتصادية الناجمة عن التغير المناخي والأوبئة، يُفترض أن يدعم الأعضاء الميسورون في الصندوق "حقوق السحب الخاصة" (ميزة احتياطية تابعة للصندوق يستفيد منها جميع الأعضاء)، فينقلوها إلى البلدان الهشة عبر صندوق المرونة والاستدامة الذي نشأ حديثاً.


على صعيد آخر، يجب أن يتابع صندوق النقد الدولي مساعيه لزيادة تمثيل البلدان داخل المنظمة. يُفترض أن يعكس الصندوق الوقائع الاقتصادية السائدة في العالم المعاصر، لا في القرن الماضي. تتطلب عملية اتخاذ القرارات في الصندوق مقاربة قائمة على أعلى درجات التعاون والحوكمة الشاملة. تضمن هذه الخطوة تكييف سياسات صندوق النقد الدولي وأدوات تمويله مع المستجدات وزيادة حيويتها كي تصبح أكثر قدرة على تلبية حاجات الأعضاء.


أخيراً، لا يمكن أن يحافظ صندوق النقد الدولي على فاعليته في العالم المنقسم اليوم إلا إذا تابع تعميق علاقاته مع منظمات دولية أخرى مثل البنك الدولي، وبنوك تنموية متعددة الجنسيات مثل بنك التنمية الأفريقي، ومؤسسات أخرى مثل بنك التسويات الدولية ومنظمة التجارة العالمية. يُفترض أن تتكاتف هذه المؤسسات المالية كلها لتعزيز التعاون الدولي ومعالجة أكثر التحديات إلحاحاً في العالم اليوم. في العام 1944، جلس 44 رجلاً على طاولة واحدة في غرفة بسيطة للتوقيع على اتفاقية "بريتون وودز". كان تراجع عدد المشاركين إيجابياً، واستفاد الجميع أيضاً من حضور بلدان متحالفة في الحرب العالمية الثانية. اليوم، أصبح التوصل إلى إجماع حقيقي بين 190 عضواً أكثر صعوبة بكثير، لا سيما في ظل تراجع الثقة بين مختلف مجموعات الدول وفقدان الأمل بتحقيق المصلحة العامة. مع ذلك، تستحق شعوب العالم فرصة لتحقيق السلام والازدهار والعيش في كوكب صالح للحياة. طوال ثمانين سنة تقريباً، تعامل العالم مع أكبر التحديات الاقتصادية عبر نظام من القواعد، والمبادئ المشتركة، والمؤسسات، وكان جزء منها يشتق من نظام "بريتون وودز".


الآن وقد دخل العالم حقبة جديدة من التفكك المتزايد، زادت أهمية المؤسسات الدولية لتقريب البلدان من بعضها ومعالجة التحديات العالمية الكبرى في هذا العصر. لكن من دون دعم متواصل من البلدان ذات المداخيل المرتفعة وتجديد الالتزام بالتعاون، لا مفر من أن يتعثر صندوق النقد الدولي ومؤسسات دولية أخرى.


ها قد انتهى عصر التكامل والعولمة السريعة، وبدأت قوى السياسات الحمائية تتوسع في كل مكان. قد تكون الصدمات المرتقبة الجانب الوحيد الذي يمكن التأكيد عليه في هذا الاقتصاد العالمي الهش والمنقسم. يجب أن يتكيف صندوق النقد الدولي، والمؤسسات الدولية الأخرى، والدائنون، والمقترضون، مع هذه المستجدات ويترقبوا المراحل المقبلة. ستكون هذه الرحلة وعرة، لذا يُفترض أن يستعد النظام المالي الدولي لما ينتظره مسبقاً.

MISS 3