عيسى مخلوف

البلد المُهاجِر

23 أيلول 2023

02 : 00

لوحة للفنّان فؤاد نعيم

سبق أن ذكرتُ على هذه الصفحة ما قاله لي والدي وهو يودّعني على عتبة المنزل لاستحالة مرافقتي إلى المطار في ظلّ أجواء الحرب الأهليّة: «أسابيع وتنتهي الحرب. سنعود ونلتقي». لكنّ الحرب استمرّت خمس عشرة سنة، وحين انتهت لم تنتهِ كلّيّاً. تلك اللحظة البعيدة، ذكّرتني بها اليوم مقالة الروائي اللبناني باللغة الفرنسيّة شريف مجدلاني في صحيفة «لاكْروا»، ويحكي فيها عن سفر ابنه إلى فرنسا لمتابعة دروسه الجامعيّة. يشير مجدلاني إلى الحزن، بل إلى الغصّة التي أحسّ بها وهو يودّعه، ويستعيد ما كان قد شعر به والده ووالدته، قبل أربعين سنة من الآن، حين سافر هو نفسه أيضاً، في ظروف الحرب وما رافقها يومذاك من صعوبة التواصل عن بُعد بين أبناء العائلة الواحدة. ثمّ ينتقل من الوداع الذي عاشه مع ابنه ومع والديه، إلى وداعات قديمة كانت أكثر قسوة، وقد تناولها في روايته «قصّة المنزل الكبير» من خلال الصور التي تظهر فيها جدّته وهي تودّع أبناءها المسافرين على متن السفن إلى أميركا، الواحد بعد الآخر، فلا يبقى أحد منهم بقربها إلّا في الصور التي تحملها بين يديها.

ما يرويه شريف مجدلاني هو القصّة نفسها التي تتكرّر من جيل إلى آخر. إنها قصّتنا وقصّة من جاء قبلنا ومن سيأتي بعدنا. تُرى، أيّ بلد في العالم تحوّل كما تحوّل لبنان – بالنسبة إلى عدد سكّانه – مصنعاً لتصدير أبنائه. هكذا يولد المرء، هنا، كأنّما على فوّهة بركان، وحقيبته جاهزة للسفر. ولا ينسى الأهل أن يضعوا في الحقيبة أيضاً شيئاً من رائحة المكان وعطوره وطَعمه: القليل من الخبز البلدي، والحَلوى، والقهوة، وخصوصاً الزعتر الذي يرتبط في الذاكرة بشروق الشمس من وراء الجبال.

في العام 2008، وضعتُ جزءاً من تجربتي مع السفر، وما عاينتُه من تجارب المهاجرين خلال إقامتي في كراكاس ونيويورك وباريس، في مسرحيّة «قدّام باب السفارة الليلْ كانْ طويلْ»، التي تَشاركنا في إنجازها، نضال الأشقر وأنا، وقُدِّمَت على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، وفي عدد من المدن العربية والأوروبية. تمحورت المسرحيّة حول هجرة الشباب من لبنان وانعكاسها، بالإضافة إلى الأبعاد النفسيّة، على واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي.

بالنسبة إلى بلد الأرز، تشكّل الهجرة مَعلماً أساسيّاً في تاريخه الحديث، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. ومن الظروف التي شجّعت عليها خصوصيّةُ الموقع الجغرافي المعقّد، واستمرار النزاعات والحروب، وانعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتحوُّل البلد إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية. في ظلّ هذا الواقع، أصبح كلّ من يولد هناك مرشَّحاً للرحيل، ما عدا زعماء الطوائف، والورثة، والأتباع الخُلَّص.

لا تحكي مسرحية «قدّام باب السفارة» حكاية شخص واحد فقط بقدر ما تروي سيرة الشخصية الجماعية في لبنان. الشخصية التي تنهش نفسها منذ أكثر من ستين سنة والتي لم تخرج بعد من مخاض الولادة. تاريخ الهجرة في لبنان هو أيضاً تاريخ النظام الطائفي اللبناني الذي «يُفقِّس» حروباً لم يسعَ أحد إلى الاستفادة من دروسها. بهذا المعنى، تنطوي المسرحية على إدانة النظام الطائفي وويلاته، لكن بلغة فنية وبدون السقوط في الخطاب السياسي والإيديولوجي المباشر. وتكشف في أحد المشاهد كيف أنّ الذين يقفون أمام باب السفارة في انتظار الحصول على جواز سفر للهرب من المشاكل المتراكمة، يتعاركون هم أنفسهم أحياناً، ما يدلّ على حالة من الاستنفار الدائم ومن جهوزيّة للخصام في غياب الاتفاق على أبسط القواسم المشتركة التي لا يمكن بناء دولة حديثة من دونها.

تجربة الهجرة تجربة مركَّبة، متعدّدة الوجوه والأقنعة، ولا يمكن اختزال ألوانها الكثيرة في لون واحد فحسب. وإذا كان بعضها يُثري ويحيل على ولادات جديدة، فإنّ بعضها الآخر تجسيد للمنفى وامتداد لشقاء عابر للقارّات. ولئن تغيّر مفهوم السفر في العقود الأخيرة، مع تطوّر وسائل النقل والمواصلات، فإنّ هجرة اللبنانيين، في أغلب الأحيان، هي هجرة اضطرارية ونوع من الطَّرد. وقد تحوّلت مع مرور الزمن إلى ملحمة يختلط فيها الواقع بالمتخيّل، المأساة بالعبث، لكنّها تدفع دائماً إلى طرح السؤال حول قدرة الإنسان على مواجهة مصيره الذي هو، هنا، مصير شعب بأكمله.


MISS 3