بشارة شربل

تحقيق "الديليفري": صَدّق أو لا تُصدّق!

27 أيلول 2023

02 : 00

يمكن للقبض السريع على مطلق النار على السفارة الأميركية قبل أيام أن يدخل في برنامج شهير للعجائب والغرائب عُرضت منه نسخ متنوعة منذ بدأ زمن التلفزيون، وهو: «صَدِّق أو لا تصدِّق»!

والمؤسف أنّ المواطن اللبناني لم يعد «يقبض» بجدية أي إعلان رسمي سواء أصدر عن مؤسسة مدنية أم أمنية، وأعلنه مدير أم وزير أم رئيس. ذلك أنّ صدقية الدولة وصلت الى الحضيض بعد كل ما مررنا به من تجارب علَّمت الكبير والصغير أهمية التشكيك، هذا إن لم يَنسب الناس ما يُتلى عليهم أو يتسرب من أخبار الى «نظرية مؤامرة» تجد جمهوراً واسعاً مدعوماً من «جلجقة» وسائل التواصل الاجتماعي.

قد يكون صبي «توترز» هو فعلاً من وجَّه الرصاص الى السفارة انتقاماً من حرّاس ادَّعى الخلاف معهم أثناء توصيله إحدى طلبيات «الديليفري»، لكن ما سمعناه من ردود فعل فورية من مواطنين نثق بعقلهم الراجح، يتراوح بين اعتبار بلاغ وزير الداخلية للسفيرة الأميركية «مزحة ثقيلة» نوعاً ما، أو خديعة وقع ضحيتها الوزير، أو جزءاً من مسرحية اعتادت تأليفها المنظومة الحاكمة منذ عهد الوصاية السورية، تارة بإخراج احتيالي متقن، وطوراً بإخراج رديء، وعموماً بما لا يقنع إلا جمهورها الذي إن قالت له إنّ اللبن أسود لصَرَخ بأنه أشد حُلكة من الليل. وما يعزّز هذا المنحى الرافض التفسير الرسمي هو أنّ الحادث ليس ناجماً عن غضب فوري، ولا هو في منطقة مستباحة يمكن الاستهانة بساكنيها المسالمين، ولا يستهدف بيت راحة للمسنين، بل إنّ الجاني يعرف أنها منطقة أمنية للجيش اللبناني و»المارينز» حرّاس سفارة عوكر، لذا فإنه استطلع ودرَس وخطط واكتشف ثغرة أمنية، بدليل فراره الناجح منها الى أن ألقي القبض عليه بسحر ساحر، لابساً ثياب المتهمين، في حال كان هو الشخص المعني!

مزعج وسيّئ رمي الشكوك على الأجهزة المولجة الدفاع عن الحق وتنفيذ القوانين، لكن يحق للبنانيين الحذر من أي تفسير رسمي بعدما اكتووا بنار «الحربقات» والأباطيل، مثلما لا يؤخذ على الصحافة نشرها تفسيرات وتقديرات سياسية لحدث مثل استهداف الأميركيين، يُذكِّر بمناوشاتهم المفتوحة مع المحور الايراني وبأساليب الرسائل الأمنية التي تنسجها غرف معتمة عيونها لا تنام.

لا يُلام الناس على رفضهم الرواية الرسمية للأحداث الأمنية. لا ضرورة لسرد الجرائم السياسية والتفجيرات التي دخلت «مثلث برمودا» النيابات العامة وقضاة التحقيق، مثلما لا مجال لتعداد تلك التي قُيّدت ضد مجهول وبقيت ملفاتها فارغة منذ اغتيال رينيه معوض، وبعضها شكَّل مناسبة لاستخدام القضاء زوراً وتزويراً، فقُلبت الحقائق رأساً على عقب، أو تمَّ التلاعب بالشهود وجرى تسلّم متبرعين بُدلاء من المرتكبين.

لو اقتصر التقصير على التحقيق في الجرائم السياسية كبرت أم صغرت، لجرى تفهّم الأمر في إطار طبيعة الصراع المفروض على البلاد، لكنه تجاوز الى تعطيل التحقيق في «جريمة ضد الانسانية» ارتكبت في 4 آب، وفي «جريمة ضد الناس» سرقت بموجبها ودائع مئات آلاف اللبنانيين، رغم أنّ السارقين أحياء يرزقون لهم عناوين وأسماء، والمتواطئين لتكريس «الإفلات من العقاب» منتشرون بلا حياء على كل المستويات، بما فيها القضاء الواجب التطهير... أبَعدَ ذلك نستغرب كيف أنّ الناس ينظرون بازدراء واستخفاف الى ما يصدر عن المسؤولين؟

معالي وزير الداخلية: سُمعتُك أنك رجل طيب وآدمي... لكن دقِّق مليَّاً بالتقارير.


MISS 3