جوزيف حبيب

"الأحقاد التاريخية" و"حظوظ" الشعوب ومآسيها

2 تشرين الأول 2023

02 : 00

تهجير "أرمن أرتساخ" محطّة سوداء جديدة في التاريخ (أ ف ب)

لم تكن «العملية الانغماسية» التي نفّذها مقاتلون صربيون مدجّجون بالسلاح في قرية بانجسكا شمال كوسوفو في 24 أيلول الفائت وأحبطتها سلطات بريشتينا، معزولة عن تاريخ طويل من الصدام الدموي ذي الأبعاد الدينية والإتنية والجغرافية والجيوسياسية بين الصرب والألبان، فوق «البركان البلقاني» النشط على مدار السنة للتذكير بأنّ انفجاره المدوّي ليس سوى مسألة وقت وحممه الحارقة لن توفّر أحداً.

«الأحقاد التاريخية» بين الصرب والألبان وتضارب مصالحهما الوجودية على كوسوفو، تعود أقلّه إلى القرن الرابع عشر مع الغزو العثماني للمنطقة. توالت الاضطهادات وحروب «التطهير العرقي» والتسويات المفروضة و»السلام المزيّف» خلال مختلف الحقبات، لتُغذّي الضغائن وتُنمّي العداوات وتزيد منسوب الكراهية بين الشعبَين في كوسوفو، حيث استطاع الألبان انتزاع «كيان هجين» بدعم غربي.

حلّ إعلان كوسوفو «استقلالها» من جانب واحد عام 2008، «لعنة» على الأقلية المسيحية الأرثوذكسية في الإقليم الصربي السابق. رفض الصرب الذين يُشكّلون أكثرية في شمال كوسوفو الخضوع لسلطة بريشتينا، ما فجّر أزمات متلاحقة مع الغالبية المسلمة عند كلّ استحقاق مفصلي. كما لم تستسغ بلغراد سلخ «قلبها النابض» عنها بـ»مخالب» حلف «الناتو» بهدف إضعاف النفوذ الروسي في البلقان.

الصراع على «أرض مقدّسة» بين شعبَين متناحرين تحكم «العداوة» علاقاتهما منذ قرون، قضية بالغة الخطورة لما قد يترتّب على تفجّرها من تداعيات إنسانية جسيمة. وأكبر مثال على ذلك، ما تشهده حاليّاً جبال أرتساخ (ناغورني قره باغ) من «تهجير جماعي» لسكّانها الأرمن الأصليين، بعدما خسرت «الجمهورية» المُعلنة من جانب واحد في التسعينيات، «استقلالها» أمام هجوم ساحق لجحافل الجيش الأذري وسط تقاطعات إقليمية ودولية صبّت لصالح باكو على حساب حقّ شعب أرتساخ في تقرير مصيره.

كان «الحظّ» حليف «ألبان كوسوفو» خلافاً لـ»أرمن أرتساخ»، فقد وقف «الناتو» مع الألبان، ودعمهم الغرب في إعلان «استقلالهم»، الذي لم تعترف به صربيا وروسيا والصين، بينما وجد شعب أرتساخ نفسه وحيداً لحظة دقّت «ساعة الحقيقة»، علماً أنّ كلّ المخطوطات والآثار والوثائق تؤكد أنّ الشعب الأرمني موجود في أرتساخ منذ «فجر التاريخ».

في المقابل، تُعتبر كوسوفو موطن الصرب التاريخي و»مسقط رأس» حضارتهم، بيد أنّ مصالح واشنطن الحيوية في البلقان «أنقذت» الألبان من «فاجعة» محتّمة عام 1999 وأنشأت لهم كياناً سياسيّاً تسعى بريشتينا لشرعنة «وضعيّته السيادية» دوليّاً أكثر فأكثر. وعلى الرغم من أن الشعب الألباني استطاع تقرير مصيره وانفصل عن صربيا بـ»عضلات» الخارج، يرفض اليوم للغالبية الصربية في شمال كوسوفو حقّها في تقرير المصير، بل تأبى بريشتينا حتّى إقامة نوع من الحكم الذاتي للصرب.

«إزدواجية المعايير» لدى الألبان ليست بالأمر المستغرب. فكلّ مجموعة طائفية تسعى إلى تحقيق مصالحها الوجودية، ولو على حساب المجموعات المتمايزة الأخرى. فالقوّة تحسم دفّة أي صراع، وهذا ما حصل في أرتساخ تحت حجّة استعادة «السيادة الأذرية» بالنسبة إلى باكو وأنقرة، التي وللمفارقة احتلّت شمال قبرص عام 1974 ودعمت إعلان «جمهورية شمال قبرص التركية» من طرف واحد عام 1983!

وبالتالي، مشاريع «القوى الفاعلة» لا تتوقّف عند حدود سياسية مُعترف بها دوليّاً عندما تُصبح هذه الحدود عائقاً أمام تأمين مصالحها الاستراتيجية أو تحقيق طموحاتها التوسعية. لذلك، لو أحسنت أرمينيا قراءة المتغيّرات وعزّزت قدراتها وعمّقت تحالفاتها في العقود الأخيرة، ربّما كانت تفادت أرتساخ مصيرها المشؤوم. وأشدّد هنا على «ربّما»، لأنّ المعضلة أكثر تعقيداً مِمَّا يتصوّره كثيرون.

على كلّ حال، جرت «رياح» موازين القوى وأنابيب الغاز بما لا تشتهي «سفينة أرتساخ» المتشقّقة، فانتصرت أذربيجان وتهجّر أرمن المنطقة، لكنّ النزاع بين يريفان وباكو لم ينتهِ، فقد يُشعل الخلاف على إقامة «ممرّ زنغزور» لربط أذربيجان بـ»جمهورية» ناخيتشيفان (نخجوان) التابعة لها وصولاً إلى تركيا، المشروع الذي ترفضه أرمينيا، حرباً في ظلّ الأطماع الأذرية بأراضي جنوب أرمينيا.

أمّا في البلقان، فتقف المنطقة كعادتها فوق فوهة بركان، مع تصاعد التوتر الميداني في كوسوفو والتأزّم السياسي في البوسنة والهرسك، وسط «بيئة أمنية» إقليمية مضطربة بسبب الحرب في أوكرانيا التي تُلهب المواجهة الغربية - الروسية وتوسّعها شيئاً فشيئاً، ما يُهدّد بـ»إراقة الدماء» ودفع «كلّ منطقة البلقان إلى هاوية خطرة»، كما حذّرت موسكو أخيراً.


MISS 3