ميشيل باربيرو

لا نهاية وشيكة لحرب المياه في فرنسا

6 تشرين الأول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أثناء مظاهرة ضد إصلاحات الحكومة في مجال التقاعد ومشروع حوض المياه بالقرب من سانت سولين | غرب فرنسا، 2 تموز ٢٠٢٣

فيما تتعامل فرنسا مع ارتفاع درجات الحرارة وموجات جفاف كارثية غير مسبوقة، بدأت حرب شاملة على المياه تجتاح البلد وتترافق مع اشتباكات قوية وإصابات متزايدة واعتقالات مكثفة.

بدأ التوتر يتصاعد بسبب استعمال خزانات اصطناعية عملاقة للريّ يتّكل عليها بعض المزارعين للتكيّف مع ندرة المياه، بينما يعتبرها النقاد سبباً لتفاقم المشكلة كونها تسرّع استنزاف موارد المياه الجوفية المحدودة لمصلحة عدد ضئيل من كبار المنتجين.

إنه واحد من صراعات متعدّدة بدأت تندلع بسبب المياه حول العالم تزامناً مع احتدام ظاهرة التغيّر المناخي التي تجفّف التربة، وترفع درجات الحرارة، وتحرم المحاصيل من المياه، وتُخفّض الكتل الثلجية السنوية التي كانت تُجدّد تدفّق المياه العذبة تقليدياً. في آسيا الوسطى، يؤدي استعمال موارد المياه الشحيحة إلى تصاعد الاضطرابات العابرة للحدود. كذلك، بدأ الجفاف يجتاح العراق وإيران بسبب التغيّر المناخي وسدود المنبع وسوء إدارة الموارد المائية. ويسود خلاف بين مصر وإثيوبيا منذ سنوات أيضاً بسبب سدّ في منبع نهر النيل كونه يهدّد دول المصبّ. وتتشاجر الولايات الأميركية الغربية بدورها بسبب تلاشي موارد نهر كولورادو، ويتصاعد الصراع الداخلي في ألمانيا وتشيلي بسبب الخلافات حول طرق الاستفادة من المياه.

يقول جوليان لو غواي، المتحدث باسم مجموعة «لا لأحواض المياه»: «المياه جزء من المصلحة العامة. لا أحد يستطيع اعتبارها مُلكاً له». هذا الشهر، خضع لو غواي وعدد آخر من المدّعى عليهم للمحاكمة بسبب تنظيم تظاهرات غير مرخّصة ضد بناء خزّان عملاق جديد في منطقة «سانت سولين»، في غرب فرنسا.

تحوّل تجمّع في آذار الماضي إلى مواجهة عنيفة مع الشرطة أسفرت عن إصابة 47 ضابطاً و200 متظاهر. كذلك، استنكر بعض المزارعين المحليين الأضرار اللاحقة بمحاصيلهم والأنابيب التي تربط حقولهم بالحوض الجديد. نُظّمت احتجاجات أخرى في موقع بناء مجاور آخر وفي باريس خلال الأسابيع القليلة الماضية أيضاً، ومن المنتظر أن يتكرّر هذا النوع من التحرّكات في المستقبل القريب.

تشير التقديرات إلى وجود مئة حوض أو مئات أحواض حفظ المياه في فرنسا، وهي عبارة عن حُفَر عملاقة مبطّنة بالبلاستيك وممتدّة على 8 هكتارات، وهي تمتلئ عبر ضخ المياه الجوفية في الشتاء بهدف استعمالها خلال أشهر الصيف الحارقة. بدأ عدد تلك الأحواض يرتفع اليوم. يشمل المشروع المُعَدّ لمنطقة «دو سيفر» (تضمّ «سانت سولين»)، بقيادة تعاونية خاصة من المزارعين المحليين، بناء 16 خزاناً جديداً لتخزين أكثر من 6 ملايين متر مكعب من المياه، أي ما يساوي 1600 حوض سباحة أولمبي. من المنتظر أيضاً أن يُبنى 30 خزاناً آخر في منطقة «فيين» المجاورة.

يقول داعمو هذه المشاريع إن الطقس بدأ يسخن ويزداد جفافاً (شهد العام 2023 أسخن صيف على الإطلاق حول العالم)، ما يجعل تلك الأحواض بمثابة بوليصة تأمين لا غنى عنها للمزارعين وطريقة لتخفيف الضغط عن موارد المياه حين تبلغ أدنى مستوياتها. تشهد فرنسا في الفترة الأخيرة أسوأ موجات الجفاف على الإطلاق. في شهر تموز الماضي، بقي أكثر من ثلثَي احتياطيات المياه الجوفية المحلية تحت المستويات الطبيعية.

تعليقاً على الموضوع، يقول لوران دوفو من التعاونية الريفية (اتحاد المزارعين): «الريّ بلا أحواض يعني متابعة ضخ المياه الجوفية رغم تراجع كميّتها».

برأي النقاد، تتعلّق المشكلة الحقيقية بتسرّب مياه جوفية قيّمة من الخزانات لمصلحة أقلية صغيرة. تقتصر نسبة المزارع الفرنسية المزوّدة بقنوات للريّ على 7%، ولا يتّصل بها إلا عدد صغير من المزارع المرويّة في محيط الخزانات. من المنتظر أن يتّصل الحوض في منطقة «سانت سولين» باثنتي عشرة مزرعة فقط من أصل 185 في المنطقة كلها. ومن بين جميع المزارع المرويّة التي تتأثر بمشروع «دو سيفر» في المنطقة، يقول لو غواي إن المساحات التي ستتّصل بالأحواض الجديدة ستستعمل ضعف المياه التي تستخدمها المزارع الأخرى.

يقول لورانس ماراندولا، متحدث باسم اتحاد الفلاحين الذي يعارض مشاريع الأحواض: «لا ينحصر الصراع بين بعض المزارعين وجماعات حماية البيئة. نحن المزارعين نحتاج جميعاً إلى المياه».

لكن بدأت كميات المياه تتراجع مع مرور الوقت. بسبب الآثار المختلطة للاحتباس الحراري والضخّ المفرط، تراجعت موارد المياه الجوفية في أوروبا بوتيرة ثابتة خلال العقود الأخيرة، وبلغت الخسائر السنوية حوالى 84 غيغاطن من المياه (ما يساوي سعة بحيرة أونتاريو تقريباً) منذ بداية هذا القرن. إنه وضع مشابه لما يحصل في أماكن أخرى من العالم، بدءاً من معظم مناطق الولايات المتحدة وصولاً إلى الشرق الأوسط.

من وجهة نظر النقاد، بما في ذلك المدافعين عن البيئة، وصغار المزارعين، والعلماء، تُعتبر الخزانات أداة لإهدار المياه المخزّنة. يعني توفيرها للاستعمال العام، بدل حفظها على شكل مياه جوفية، أن يتبخّر جزء منها وتسخّن الكميات المتبقية وتمتلئ بجراثيم سامة. يقول كريستيان أمبلار، مدير البحوث الفخرية في المركز الفرنسي الوطني للأبحاث العلمية: «نحن نخسر على مستوى الكمية والنوعية في آن. ما يحصل غير منطقي».

أخيراً، يتّهم البعض تلك الخزانات بتطبيق ما يعتبره النقاد نموذجاً زراعياً غير مستدام كونه يستهلك كمية مفرطة من المياه ويسرّع الاحتباس الحراري. يُستعمَل أكثر من 60% من الأراضي الأوروبية الصالحة للزراعة لإطعام المواشي المسؤولة عالمياً عن أكثر من 30% من انبعاثات الميثان (نوع قوي من غازات الدفيئة). تتعدّد المحاصيل التي تُزرَع لإطعام الحيوانات، منها الذرة التي تحتلّ ثلث الأراضي المرويّة في فرنسا وتحتاج إلى كميات كبيرة من المياه في الصيف، وهذا ما يفسّر الحاجة إلى حلول مثل بناء الخزانات.

يوضح أمبلار: «تؤخّر الأحواض العملاقة الانتقال إلى زراعة مسؤولة وقوية ومكتفية من حيث استخدام المياه».

تتطلب تلك العملية الانتقالية خطوات عدة، منها السعي إلى زيادة قدرة الأتربة على الاحتفاظ بالمياه والابتعاد عن إنتاج اللحوم ومشتقات الحليب. في ظل تخصيص حتى 15 مليار يورو من المساعدات العامة لقطاع الزراعة الفرنسي سنوياً، يُفترض ألا تبرز أي مشاكل في تأمين الموارد المالية اللازمة لهذا المشروع. يضيف أمبلار: «قطاع الزراعة هو واحد من القطاعات القليلة التي تسمح بتنفيذ العملية الانتقالية البيئية من دون تهميش أي طرف».

لكن لا تبدي الحكومات الفرنسية المتعاقبة حماساً شديداً تجاه هذا المشروع حتى الآن، بل إنها تفضّل دعم الخزانات التي اعتبرها وزير الزراعة الفرنسي الراهن، مارك فيسنو، «مفيدة». سيموّل دافعو الضرائب 70% من قانون بقيمة 76 مليون يورو للمشاريع المخطط لها في منطقة «دو سيفر». قد يحظى المزارعون بنفوذ سياسي ومالي كبير في الاتحاد الأوروبي عموماً، لكنهم يشكّلون قوة سياسية بحد ذاتها في فرنسا.

في غضون ذلك، بدأت السلطات الفرنسية تقمع التحرّكات المعادية للأحواض. تعرّضت الشرطة لانتقادات لاذعة بسبب طريقة تعاملها مع احتجاجات «سانت سولين»، واستنكرت «رابطة حقوق الإنسان» (منظمة فرنسية غير حكومية) إطلاق الرصاص المطاطي عشوائياً على المحتجين وإقدام قوات الأمن على منع المسعفين من بلوغ المكان، في محاولة منها لمنع الوصول إلى موقع الحوض، بغض النظر عن الخسائر البشرية.

في الوقت نفسه، اعتبر وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، جزءاً من المشاركين في الاحتجاجات «إرهابيين بيئيين»، واتخذ بعض الخطوات لحل «انتفاضات الأرض»، وهي جماعة بيئية صاخبة تتخذ تحركاتها منحىً عنيفاً أحياناً.

يقول لو غواي: «لقد بدأنا نتعرض للمراقبة ولإجراءات قانونية وتحقيقات متزايدة. خلال السنة الماضية، تلقّينا سيلاً هائلاً من الاستدعاءات إلى المحاكم. مع ذلك، ستتابع الحركة منع بناء الأحواض الجديدة».

بات الجدل الذي يلوح في أفق فرنسا مألوفاً في أماكن أخرى، بدءاً من الغرب الأميركي وصولاً إلى منابع النيل. يقول دوفو: «أصبحت الأحواض مسألة مسيّسة ومعزولة عن سياقها الحقيقي، إذ يتم تصوير المزارعين الذين يدعمونها وكأنهم الأشرار في هذه القصة، وهو وصف غير منصف».

في النهاية، يقول ماراندولا: «ما من موارد كافية في احتياطيات المياه الجوفية لتبرير متابعة استخراج هذه الكميات من المياه للزراعة. يُفترض أن تتحدّد طريقة استعمال المياه المستخرجة بشكلٍ ديمقراطي، مع الحرص على معرفة كيفية استخدام كل قطرة مياه».


MISS 3