جيمي الزاخم

عن العدالة والنظام العالميّ

البروفيسور كميل حبيب: إسرائيل تُبيدُ القانونَ الدّولي

10 تشرين الثاني 2023

02 : 01

لماذا تكتب هذا الموضوع يا عزيزي جيمي؟ مع كلّ مَرّةٍ مُرّة، نفصل القلمَ عن شرايينه والصوتَ عن حنجرته. الواجب المهنيّ يقودُنا إلى سؤال أعمى عن القوانين الدولية... هل سنعثر عليها بين الجثث والدموع التي تسيل بلا عيون؟ هل بحوزة العدالة مكبّرات عدل تنادي على عائلات شُطبت من سجلّ القيود والوجود؟! هل أنصفت المواثيقُ أمّاً تخيطُ من دم أولادها شرشفاً تكفّنهُم به، وتبخّر طفولتَهم بدخان القنابل؟ هل يدخل القانون إلى مدارسَ تحوّلت مقاعدُها إلى توابيت؟ هل يمسح تعبَ عجوزٍ في باحة مستشفيات صارت صالةَ انتظار بين موت وحياة بموتٍ مؤجَّل؟ هل كبّلت أبجديةُ الإتفاقيات الدولية والإنسانية يدَ القاتل الإسرائيلي الذي يمسح بحروفها مؤخّرةَ دبابّاته وطائراته بعد كلّ مجزرة؟!... كل هذا الغضب نغلّفُه بأسئلة نطرحُها على العميد السابق في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية البروفيسور كميل حبيب.



منذ بضعة أيام، اعتذر د. حبيب من طلّابه على منصة «إكس»، لأنّه كان متشدّداً في تدريس المقرّرات القانونية. «فبعد الجرائم الصهيونية في غزة لم تعد هناك حاجة لتدريسها. حقّ القوّة سيّدُ العالم». بنبرة تأسّفية، يقول في حديثه لـ»نداء الوطن» إنّ هذا التصريح نابعٌ من ألم وغضب بعد الارتكابات بحقّ المدنيين والمؤسسات الطبية والتعليمية. «أين ما علّمناه لطلّابنا؟ أين القانون والدول الكبرى المسؤولة عن حفظ الأمن والسلام الدوليين؟». تساؤلاته ليست آنية أو حديثة العهد «مع كيان إسرائيلي هو فوق القانون والمحاسبة». يتمسّك العميد بالقوانين والمعاهدات الدولية والإنسانية. ويعترف، كمتأثّر بالمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، بحتميّة الصراعات حول القوة بين الدول للسيطرة. «لكنّ رفض دول كبرى وقف إطلاق النار» أذهلَه. يعارض تصريحاتٍ حقوقية ودولية عن أهميّة دور الاتفاقيات القانونية في تقليص الكوارث عالمياً. «من احترمها؟ هل منعت الحروب؟».

في الجامعة اللبنانية دَرَّس حبيب مقرَّرات قانونية دولية، ورافق طلّابه بمادّة عن منظمة الأمم المتحدة. كدّره تصريح مفوضيّتها العليا لحقوق الإنسان باعتبارها «ما يجري في غزة قد يرتقي لجريمة حرب». أمام كل القهر، لا مكان لحروف الشكّ والاحتمالات، فبين القاف والدال حروف من دم وظلم مَرَّ بالجمعية العامة للأمم المتحدة «التي هي جمعية الأمم المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية». بالقرار 181 الذي صدر عنها عام 1947، تواطأت الدول الكبرى على فلسطين وسلَبتْها من أهلها. يشدّد حبيب على إنجازات الأمم المتحدة الإنسانية ومحاولاتها التعامل مع الأمر الواقع. لا يُنكر دورَها بإزالة الاستعمار أفريقيّاً وتخفيف التوترات في الكثير من الدول. كما اتّخذت قرارات تنصّ على «المساواة بين الشعوب، وشرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والكفاح من أجل الاستقلال. إنّ ميثاقها ينصّ على الأمن والسلم الدوليَيْن». ولا سلام من دون عدالة دولية «تعني أولاً وأخيراً حق الشعوب في تقرير مصيرها». كما أنّ المادة 51 من هذا الميثاق تشدّد على «حقّ الدول الطبيعي بالدفاع عن النفس. وهنا تكمن إشكالية التفسير مع تصريحات عن حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. ولكن ألا يحقّ للشعب الفلسطيني الدفاع عن أرضه ونفسه؟ ألا يستحقّ الفلسطينيون جزءاً من الحقوق التي نصّ عليها الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف؟... لماذا الدم الفلسطيني رخيصٌ في عيون دول القرار؟». القضية الفلسطينية هي «أطول القضايا زمناً وأكثرها مأساةً مع انتهاكات إسرائيلية للقانون: حصار، تجويع، تهجير وبناء مستوطَنات هي مستعمرات يُدافع عنها الاحتلال لترسيم حدوده. المسيحي إذا غادر الأراضي المقدّسة يُمنع من العودة، والمسلم إذا غاب ثلاث سنوات يُصادَرُ منزله».

إذاً ما نفع كلّ هذه القوانين؟ أليست العدالة بخدمة السياسة؟ يعود د.حبيب إلى «أصل المشكلة في النظام الدولي الفوضوي بطبيعتِه والمنظَّم بهيكليته. الأمم المتحدة تعجز عن تطبيق قراراتها لأنها ليست سلطة تنفيذية تفرض العدالة، مع غياب التوافق والديموقراطية في مجلس الأمن». هويّة النظام العالمي هي الأساس. «بين عامي 1648 و1945، كان النظام متعدّد الأقطاب. حينها وُلد القانون الدولي. بعد الحرب العالمية الثانية أصبحنا أمام ثنائية قطبية تحوّلت إلى أحادية أميركيّة تتزعزع راهناً. وسترِثُها ثلاثيةٌ بين واشنطن، موسكو وبكين». يعوّل حبيب عليها مستقبَلاً، لأنّها توسّع وتعدّد الخيارات.

ولكن بالعودة إلى أرض الواقع واللحظة والتاريخ، يسأل د.حبيب «ليش كل هالقهر لشعوب المشرق العربي؟ إنّهم يصطفّون ضدّنا كُرمى لإسرائيل المغتصِبة المحميّة بقرار دولي لتحقيق المصالح. هي بدّلت حلمَها بامتداد حدودها من الفرات إلى النيل. وتسعى للهيمنة الاقتصادية على الشرق الأوسط بدور مركزيّ في خط أنابيب النفط، وأيضاً كبؤرة تكنولوجية أولى مصدِّرة للتقنيات والأسلحة إلى الدول العربية. هذا مشروعٌ ورد في كتاب «الشرق الأوسط الجديد» لشيمون بيريز عام 1996. ويعزل الفلسطينيين بمصير مشابه للهنود الحمر».

لبنانياً، وبالاستناد الى القوانين الدولية، أَدان إسرائيل قرارٌ من الأمم المتحدة واللجنة المختصة بمعاقبتها بعدما قصفت معمل الجيّة وتلوّث الشاطئ والمياه اللبنانية في حرب 2006. فُرض عليها تعويضٌ بمبلغ 80 مليون دولار للدولة اللبنانية. لكنّها وكعادتها لم تلتزم. «هي عدوّ فوق القانون. غير أنّ الشكاوى المقدَّمة من قِبل الدولة اللبنانية إلى الساحة الدولية، تساهم في توثيق هذه الجرائم والانتهاكات صوناً وحفاظاً على حقّ لبنان في المستقبل». فجرائم الحرب، جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية تنظر بها المحكمةُ الجنائية الدولية. الادّعاء أمامها لا يتمّ إلّا على مستوى دول. «وقد يُجابَه طلبُ تقديم شكوى للمحكمة بحقّ النقض من مجلس الأمن. أمّا على الصعيد الفرديّ، فيحقّ للأفراد والمؤسسات تقديم وثائق إدانة أمام المدّعي العام في هذه المحكمة. تُجمَع وتُحفَظ وتُستخدم كأدلّةٍ عندما تتقدّم دولة بادّعائها». كما أنّ تقديم شكاوى فردية أمام محاكم محلّية غربية يُدين حكمُها إسرائيل، يصفه حبيب «وسيلةً لتصفير العدوّ أخلاقياً وحشد الرأي العام الغربيّ الذي أُراهنُ عليه وعلى تظاهراته المناصرة لفلسطين لصناعة فرق في مزاج الإدارات الغربية وديموقراطيتها الاستنسابية».

بين المنصوص والمنطوق، هوّةٌ تزيدها أنيابُ العالم غربةً. بين كل هذه المعلومات والكلمات، يتجوّل ظلمٌ يقلِب الأحمر إلى أخضر. فلا يتوقّف أمام إشارات الحقّ والقانون. بين جحودٍ وصمود، وبين نقرة وأخرى على لوحة المفاتيح، يتحوّل «الكيبورد» الأسود إلى رخام قبر تعلوه حروفٌ يابسة كشتلة نعناع جفَّفتْها الجدةُ سميرة أيوب في حديقتها الجنوبية ونَسِيَتها. خرجت من بيتها لتعود إلى تراب أرضها. وبدل النعناع، زرعت في بلدها 3 ورداتٍ وقلبَها.



أصل المشكلة هو في طبيعة النظام الدولي


MISS 3