عيسى مخلوف

الديموقراطيّة في العراء: مايكل إيسن وفرح بكر

11 تشرين الثاني 2023

02 : 01

مايكل إيسن

حذّر البنك الدولي مؤخّراً من تأثير التصعيد العسكري في غزّة على الوضع الاقتصادي ككلّ، وأبدى خشيته من أن «يبطئ النموّ ويؤدّي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي العالمي»، وهذا ما سيصيب، بشكل خاصّ دولاً كانت تعيش، حتى قبل الحرب، خطراً على هذا الصعيد ومنها لبنان وسوريا واليمن. انعكاسات حرب غزّة لا تتوقّف عند حدّ، بل تَطُول مجالات عدّة، سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة، فضلاً عن المجال العلمي ومراكز البحوث التي كانت تظنّ أنها بمعزل عن هذه الهزّات وتتحرّك نسبيّاً في مناخ من الحرية، لا يستقيم بحث موضوعي من دونه.

منذ أيّام قليلة، كتبتُ على صفحتي في الفيسبوك العبارة الآتية: «تحت الأنقاض، لا يُدفَن الأبرياء والأطفال وحدهم فحسب، بل يُدفَن معهم أيضاً ما تبقّى من قِيَم الديموقراطيّة ومن مبادئ الحرية وحقوق الإنسان». من مظاهر هذا الواقع، إضافة إلى المواقف السياسيّة والتحرّكات العسكريّة، ما يحصل داخل المجتمع الثقافي والعلمي نفسه. ثمّة تدوينة حول غزّة حملت توقيع رئيس تحرير مجلة eLife العلميّة مايكل إيسن، عالم البيولوجيا المعروف والمُحاضِر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، ونُشرَت أواخر الشهر الماضي، هزّت الوسط العلمي في الولايات المتحدة الأميركيّة، ووصلت ارتداداتها إلى أوروبا. إثر نشرها، فُصل إيسن من عمله على الفور، وهذا ما أثار جدلاً واسعاً حول حرية التعبير، داخل المجلّة نفسها، وفي أوساط البحث العلمي التي انتقدت هذا السلوك المعادي لها.

أما التغريدة فهي إشارة إلى مقال صدر في صحيفة «ذي أونيون» الساخرة وعنوانه: «الذين يحتضرون من أهل غزّة يتعرّضون للانتقاد بسبب عدم إدانتهم حركة حماس في كلماتهم الأخيرة». (عبارة تقول الكثير وتختصر الواقع الدامي بأكمله). يضيف العالِم والأستاذ الجامعي: «تتحدّث «ذي أونيون» بشجاعة أكبر من جميع مسؤولي المؤسّسات الجامعيّة مجتمعةً. أتمنّى أن تكون هناك جامعة اسمها «ذي أونيون»... لا يتحمّل القيِّمون على جامعة كاليفورنيا هذه اللهجة التي تقول الواقع بكلمات ساخرة - ولذلك أقالوا أستاذهم من موقعه - لكنّهم يقبلون بأن يرتفع عدَّاد القتلى من الأطفال والأبرياء ويبلغ الآلاف في غضون أيّام معدودة.

هناك أساتذة كُثر وقفوا بجانب إيسن، ومنهم من قدّم استقالته من الجامعة لاعتبارهم أنّ الموقف الذي اتُّخذ منه هو موقف غير عقلاني ويتعارض مع مبادئ الجامعة وتعدُّد الآراء وحرّية التعبير. وقد وقّع أكثر من ألفي عالم بيولوجيا على بيان يدين هذا السلوك ويعتبره منافياً للعلم ولمهمّة المثقّف والمواطن... أما الأساتذة الذين انتقدوا موقف إيسن ممّا يجري في غزّة بحقّ المدنيين فاعتبروا أنه «يوجّه ضربة لرسالة المجلّة العلميّة» التي كان يديرها، و»للتناغم العامّ الذي يحاولون إرساءه داخل المؤسسة الجامعيّة»! تغريدة واحدة تعبّر عن رأي أستاذ جامعي داخل مجتمع «ديموقراطي»، دبّت الرعب في قلوب هؤلاء الأساتذة ومن تواطأ معهم في إدارة الجامعة لإقالته. ولقد ردَّ إيسن على هذه الإقالة بكلمات قليلة: «لا معنى لذلك كلّه أمام هَول ما يحدث في الشرق الأوسط».

مقابل تغريدة مايكل إيسن التي هزّت الوسط العلمي في الولايات المتّحدة الأميركيّة، ووصلت أصداؤها إلى أوروبا، هناك فتاة فلسطينية تقيم بالقرب من مستشفى الشفاء في غزّة حيث يعمل والدها جرّاحاً، وتكتب تغريدات على منصّة «إكس»(تويتر سابقاً)، وترسل مقاطع فيديو تروي فيها ما يجري حولها وكيف تحاول أن تختبئ من القصف. من تغريداتها التي لا يلتفت إليها صنّاع القرار في العالم صورة ليافطة كُتِبَ عليها باللغة الإنكليزيّة: «أنا فرح بكر من غزّة. عمري 16 سنة. منذ ولادتي حتى الآن، نجوتُ من ثلاث حروب وأعتقد أنّ هذا يكفي». رسالة فرح بكر التي وصلت إلى عشرات الآلاف من المتابعين، هي أكثر موضوعيّة من القسم الأكبر من وسائل الإعلام الغربيّة اليوم، والتي تُفاضِل بين ضحيّة من هذا الجانب وأخرى من الجانب الآخر، ولا يعنيها أن تنقل حقيقة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بقدر ما يعنيها أن تنقل ما تفترض أنه الواقع، وما يتلاءم مع هذه السياسة أو تلك.

العالم السياسي الأصمّ والأبكم لن يلتفت إلى «مغرّدة غزّة» وإلى أمثالها من الذين يموتون يوميّاً تحت الأنقاض أو ممّن سيبقى منهم. ومَن سيبقى حيّاً لن تكون حياته شبيهة بالحياة، بل بشيء آخر يفضح السياسة التي تُسيِّر العالم وتجعله أرضاً غير صالحة للعيش.




فرح بكر


MISS 3