ها قد عاد الرجل الذي أطلق أولى مظاهر الفوضى المستمرة في المملكة المتحدة إلى الواجهة. ظهر ديفيد كاميرون الذي كان رئيس الوزراء بين العامين 2010 و2016 على الساحة السياسية مجدداً. هو ترك عالم السياسة بعد خسارته في الاستفتاء الذي نظّمه بنفسه بشأن خطة «بريكست». بعد سبع سنوات على تواريه عن الأنظار، ها قد عاد الآن من باب وزارة الخارجية المرموقة في شارع الملك تشارلز، إلى جانب مكاتبه القديمة في مبنى «10 داونينغ ستريت».
تُعتبر هذه العودة غريبة فعلاً لأن كاميرون هو «رئيس الوزراء الذي أشرف على أكبر فشل حكومي منذ الحرب العالمية الثانية» برأي مارتن فار، أستاذ في التاريخ السياسي من جامعة «نيوكاسل». خلال الحملة التي أطلقها بنفسه لإجراء استفتاء حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، حرص على تأييد خيار البقاء في الاتحاد. هكذا خسر في الاستفتاء واضطر للاستقالة. يتذكر الجميع حتى الآن كيف أعلن من مقر وزارة الحكومة، في اليوم الذي تلا الاستفتاء، في 24 حزيران 2016، رحيله الوشيك وتمنى حظاً وفيراً لكل من سيتولى إدارة الكارثة التي أطلقها. في 11 تموز، استقال كاميرون من منصبه رسمياً. التقطت الكاميرا حينها تنهّده بعد إنهاء خطابه، عندما كان يتجه إلى الانسحاب من الساحة السياسية.
يضيف فار: «بسبب خطة «بريكست» وحملة التخلص من المعتدلين داخل حزب المحافظين، وجد ريشي سوناك نفسه في حكومة محطّمة. إنه السبب الذي دفعه إلى إقرار هذا التعديل الوزاري أيضاً». وَرِث سوناك منصب رئيس الحكومة من دون أن يختاره حزبه بعد عهد ليز تراس القصير، في تشرين الأول 2022. لقد كان ضعيفاً لدرجة أن يعجز عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لترسيخ مكانته. لكنّ إعادة تعيين سويلا بريفرمان في وزارة الداخلية، مع أنها من أكثر اليمينيين تطرفاً في حزب المحافظين وقد استقالت للتو بسبب انتهاكها للقوانين الوزارية، تعكس إخفاقاً في إصدار الأحكام على أداء السياسيين، وهو تطوّر لم يفاجئ فار الذي لا يعتبر ريشي سوناك بارعاً في التكتيك السياسي.
تغيير في الوجهة السياسية
إتّضح هذا الواقع منذ شهرين، حين بدأت معالم الانتخابات المستقبلية تتحدّد، علماً أن هذا الاستحقاق سيحصل في بداية العام 2025 كحد أقصى. طرح سوناك نفسه حينها كمرشّح «التغيير». بدا هذا الطرح شائباً بعد 13 سنة من حُكم المحافظين. في 4 تشرين الأول، تكلم سوناك عن «إهدار 30 سنة على طريق التغيير»، لكنه لم يذكر ديفيد كاميرون الذي بقي رئيساً للحكومة خلال ستة أعوام من تلك السنوات وترأس حزب المحافظين بين العامين 2005 و2016. يظن فار أنه يحاول تغيير مواقفه بحجّة تشكيل حكومة أكثر كفاءة واعتدالاً.
تُحضّر سويلا بريفرمان من جهتها خطاب وداع شديد اللهجة، وسيكون مشابهاً على الأرجح للخطابات التي يحق لها أن تُلقيها في مجلس العموم. لا أحد يشكّ بأنها ستثير حفيظة معسكر اليمين في حزب المحافظين حتى موعد الانتخابات المقبلة، حتى أنها قد تجازف بانهيار الحزب. ذكرت صحيفة «ذا غارديان» أن ريشي سوناك سبق وخسر كل أمل في متابعة السيطرة على «الجدار الأحمر»، أي مناطق إنكلترا الشمالية التي تخلّت عن التزامها بانتخاب حزب العمال في العام 2019 من أجل التصويت لصالح بوريس جونسون وخطة «بريكست» التي يدعمها. هو يفضّل أن يحاول إنقاذ «الجدار الأزرق»، أي الدوائر الانتخابية المعروفة تاريخياً بولائها لحزب المحافظين في جنوب إنكلترا. يقول بول ويب، أستاذ في العلوم السياسية من جامعة «ساسكس»: «هو يعيد ترتيب المقاعد على متن سفينة توشك على الغرق مع اقتراب الاقتراع. لكن لن تكون أيٌّ من الخطوات التي يتخذها كافية لاسترجاع شعبية الحزب». يمثّل ديفيد كاميرون «حالة نادرة حيث يقرر الفرد أن يركب طوعاً على متن سفينة غارقة».
تــــعــــيــــيــــن ضــــروري
يظن فار أن شعور الذنب أو الملل الذي أصاب ديفيد كاميرون بعدما اضطر للتقاعد في عمر السابعة والخمسين يعطي زخماً لعودته. حتى أن اختيار رئيس وزراء سابق يُجدّد ثقل المملكة المتحدة على الساحة الدولية. هو يُعرَف من الآن فصاعداً باسم «البارون» كاميرون، بعدما منحه الملك تشارلز الثالث هذا اللقب النبيل: عملياً، يجب أن يكون كل وزير عضواً في واحد من مجلسَي البرلمان (من الأفضل أن يكون جزءاً من مجلس العموم حيث يُنتخَب الأعضاء). لكن يمكن أن يصبح اللورد وزيراً. بالنسبة إلى فار، تبقى هذه التفاصيل مجرّد سخافات تقنية. أهم ما في الأمر هو أن تعيين ديفيد كاميرون يمنع غرق حزب المحافظين في مخالب التطرف اليميني.
يُفترض أن تقرر المحكمة العليا، يوم الأربعاء، مدى شرعية الاتفاق الذي وقّعت عليه لندن مع كيغالي، عاصمة رواندا، لترحيل طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى المملكة المتحدة بطريقة غير قانونية. كانت سويلا بريفرمان قد أعلنت أنها «تحلم» برؤية طائرة المهاجرين وهي تُحلّق وتتجه إلى رواندا. حتى أنها هددت بالمطالبة بسحب المملكة المتحدة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان إذا عارضت المحكمة العليا ذلك القرار. يظن فار أن ديفيد كاميرون لن يوافق يوماً على المشاركة في حكومة تُحدِث تغيّرات جذرية لهذه الدرجة. يبدو أن عودة رئيس الوزراء السابق تنذر بإعادة تمركز حزب المحافظين في المراحل المقبلة. لكن يظن هذا المحلل أن أي توجّه مماثل يهدف بشكلٍ أساسي إلى «الحدّ من الأضرار» المحتملة بدل تعزيز الآمال بالتفوّق على حزب العمال. حتى الآن، يتفوق اليساريون في حزب العمال على غيرهم في استطلاعات الرأي.