عبد الحق الإدريسي وأن ميشيل

الأموال القذرة والثروات الروسية في قبرص تتابع مطاردة أوروبا

22 تشرين الثاني 2023

المصدر: Le Monde

02 : 00

أصبحت سمعة قبرص كملاذ مالي، ومعقل للأوليغارشيين الروس، ومكان يتقبّل الأموال ذات المصادر الإجرامية، معروفة للجميع. لكن يكشف تحقيق جديد أجراه «الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين» ونشرته 69 وسيلة إعلامية، بما في ذلك صحيفة «لوموند»، عواقب النموذج الاقتصادي في قبرص.



يؤكد تحقيق «ملف قبرص السري» على استعمال تلك الجزيرة الواقعة في البحر الأبيض المتوسط كمدخل لتدفقات مالية مشبوهة نحو الاتحاد الأوروبي. سبق وأصدرت هيئات مكافحة تبييض الأموال تحذيرات متلاحقة على مر السنين بسبب زيادة قلقها من الفضائح المالية المتكررة. لكن نظراً إلى غياب أي إرادة سياسية لتغيير الوضع القائم، سمح الاتحاد الأوروبي بازدهار مساحة تُسهّل تسجيل عدد كبير من الشركات الصُوَرية بدعمٍ من الأموال الروسية التي يملكها أوليغارشيون يريدون الاستفادة من تراجع الضرائب والسرية المصرفية المتينة. من بين عملاء ستة مكاتب قبرصية سلّط التحقيق عليها الضوء، حدّد «الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين» وشركاؤه 96 شخصية روسية تخضع لعقوبات غربية منذ العام 2014، وهي على صلة بـ800 شركة أو صندوق على الأقل.

يكشف هذا «التسريب» الدور المحوري الذي لعبته شركة MeritServus لإدارة إمبراطورية رومان أبراموفيتش الخارجية. أبراموفيتش رجل أعمال نافذ ومقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو مالك فريق كرة القدم الإنكليزي «تشيلسي» سابقاً، كما أنه يملك 14 صندوقاً في قبرص وحوالى مئة شركة في الملاذات الضريبية.

تؤكد هذه الأمثلة تداعيات النموذج الاقتصادي الذي أنشأته المستعمرة البريطانية القديمة، بناءً على قطاع مالي متضخم جداً يتكل بدرجة فائقة على روسيا. بعد عقود من الازدهار، أصبح البلد أسير هذه الممارسات، فوقع الاتحاد الأوروبي أيضاً في الفخ نفسه.

إتفاقية ضريبية مفيدة

التزمت نيقوسيا بواجباتها طبعاً، فطبّقت العقوبات التي تستهدف روسيا بعد بدء الحرب في أوكرانيا. لكن لم تنقطع علاقات البلد مع الأموال الروسية و50 ألف روسي، معظمهم أثرياء حصلوا على إقامة دائمة في قبرص. ربما تجمّدت المليارات التي يملكها أفراد استهدفتهم العقوبات في حساباتهم المصرفية، لكن يتابع الروس نشاطاتهم في الجزيرة.

لفهم هذه العلاقة المميزة مع روسيا، لا بد من العودة بالزمن إلى العام 1998. بموجب اتفاقية ضريبية مفيدة جداً، وافقت روسيا على أخذ 5% من الضرائب فقط من الإيرادات التي تدفعها الشركات الروسية لأصحاب الأسهم المقيمين في قبرص. في غضون ذلك، أُعفِيت روسيا من دفع الفوائد أو المستحقات التي تدين بها لقبرص بالكامل.

نتيجةً لذلك، قرر عدد كبير من أصحاب المليارات الروس فتح شركاتهم القابضة في قبرص، وهي عبارة عن شركات صُوَرية بسيطة لا أساس اقتصادياً لها وتهدف إلى توجيه مشاركتهم في القطاع الاقتصادي الروسي. أدت تلك الاتفاقية سريعاً إلى تضخم الاستثمارات الروسية في قبرص، فتحوّل ذلك البلد الصغير، الذي يقتصر على 1.2 مليون نسمة، إلى ثاني أكبر مستثمر أجنبي في روسيا، ولو ظاهرياً.

لم تُفرَض أي تعديلات على نص الاتفاقية لتجنب التجاوزات قبل العام 2013. ثم أصبحت نسخة جديدة من تلك الاتفاقية الضريبية سارية المفعول في العام 2021، فوقّع عليها البلد بطلبٍ من روسيا التي أرادت أن تعود رساميل الأوليغارشيين إليها. باتت الضرائب على الأرباح والفوائد التي تستهدف الشركات القبرصية تتماشى مع نظام القانون العام، لكن بقيت بعض المنافع الضريبية على حالها.

لمتابعة جذب الرعايا الروس الأثرياء، لم تكتفِ قبرص بلعب ورقة غياب الضرائب، بل فتحت لهم الجزيرة أبواب الاتحاد الأوروبي، سواء كانت أموالهم تشتق من نشاطات قانونية أو غير شرعية. مقابل الاستثمارات المستمرة، حصل بعض رجال الأعمال الأثرياء على جوازات مميزة بدءاً من العام 2013، ما سهّل ارتكاب تجاوزات كبرى.

على صعيد آخر، تبيّن أن جزءاً كبيراً من عمليات التجنيس لم يكن مطابقاً للمعايير المعمول بها، وفق تدقيق عالي المستوى أجرته الحكومة القبرصية في العام 2022، بعد سنتين على تحقيق نشرته قناة «الجزيرة» واستنتج وجود عدد كبير من المجرمين الذين استعملوا البلد كصلة وصل من العواصم المشبوهة نحو الاتحاد الأوروبي.

لم تتوقف المزايا التي استفاد منها عدد من الأثرياء الروس، سواء كانوا مقرّبين من السلطات أو بعيدين عنها، رغم وقف برنامج الجوازات الذهبية في العام 2020 بضغطٍ من الاتحاد الأوروبي. تتابع قبرص أيضاً اقتراح تراخيص إقامة دائمة مقابل استثمارات بقيمة 300 ألف يورو في الجزيرة. لا تزال بروكسل تنتقد هذه التأشيرات الذهبية التي أصبحت بديلة عن جوازات السفر باعتبارها تطرح «تهديداً خطيراً».

بعيداً عن الروس، حوّلت قبرص نفسها إلى مكان اختياري للمخادعين والمجرمين من جميع الأنواع بهدف تشريع التدفقات المالية الشائكة. يشتق هذا الخلل من قطاع مالي يفتقر إلى رقابة مناسبة، فهو أثبت منذ وقتٍ طويل أنه لا يهتم فعلياً بمكافحة تبييض الأموال ولا يدقق بأصل التدفقات المالية التي يتلقاها. اتّضحت هذه المشكلة في أعلى مراتب السلطة خلال عهد الرئيس السابق نيكوس أناستاسيادس، الذي ترك منصبه في شهر شباط الماضي، بعد عشر سنوات على تولّيه رئاسة البلد، وكان قد أدار بنفسه حكومة يكثر فيها المدافعون عن قطاع الأعمال المرتبط بالصفقات الخارجية، وهي حكومة تورطت في فضائح عدة.

استفادت بعض الشركات القبرصية من التساهل العام في محيطها لجذب عملاء لا يتقبّلهم العالم أجمع، بما في ذلك بنك FBME الذي تتهمه السلطات الأميركية بالتعاون مع أحد مموّلي حزب الله اللبناني ومنظمة سورية على صلة ببرنامج الأسلحة الكيماوية التي يملكها نظام بشار الأسد.

الـــتـــعـــاون مـــفـــقـــود

تفادياً لأي تنظيمات مستجدة، سمحت قبرص حديثاً بتطوير نشاطات جديدة لا تخضع لرقابة مكثفة وغالباً ما تتركز في المساحة الغامضة التي ينتجها الاقتصاد الرقمي، بما في ذلك المراقبة السيبرانية، أو الألعاب على شبكة الإنترنت، أو المواقع الإباحية، علماً أن أكثر من 85% من اقتصاد البلد يتكل على قطاع الخدمات. تكثر المخاطر المطروحة حاضراً ومستقبلاً إذاً، وتبقى قبرص في الوقت نفسه بوابة بالغة الأهمية نحو السوق الأوروبي.

يطرح هذا الوضع مشاكل متزايدة، نظراً إلى غياب التعاون الدولي مع السلطات المحلية التي تتعرض للنقد دوماً من القضاة الأوروبيين المتخصصين بمكافحة الفساد. هذه الظروف تعزز الشكوك القائلة إن السلطات القبرصية تسعى إلى حماية قطاع مالي يمثّل حتى الآن 8% من الناتج المحلي الإجمالي، ضمن مساحة صغيرة حيث تتداخل الأعمال في معظم الأوقات بين عالم السياسة والقطاع المالي.

في الفترة الأخيرة، تأكد القضاء الفرنسي من عدم تعاون السلطات القبرصية في قضية لا تزال مستمرة في فرنسا وتتمحور حول تبييض ملايين اليورو التي وصلت إلى روسيا مروراً بقبرص. يقول مصدر قضائي: «عمدت السلطات إلى تأخير جميع طلباتنا، أو رفضها، أو زيادة تعقيدها. نحن نعرف أن الاقتصاد القبرصي يقوم بشكلٍ أساسي على الأموال الروسية. لا نفع إذاً من اتخاذ المواقف لأن قبرص لن تؤذي نفسها اقتصادياً».

اتّضح هذا التحفظ في أرقام مكتب المدعي العام الأوروبي الجديد الذي كُلّف بمكافحة انتهاكات المصالح المالية الخاصة بالاتحاد الأوروبي. فيما عمدت الدول الأعضاء الأخرى إلى مضاعفة تحقيقاتها (865 في العام 2022) واسترجعت مئات ملايين اليورو، لم تفتح قبرص أي تحقيق في العام 2022. يوحي الوضع دوماً بأن التجاوزات المالية غير موجودة في الجزيرة، مع أن قبرص تلقّت 15 طلب تعاون من البلدان الأوروبية في العام 2022 عن طريق ممثّل قبرص في مكتب المدعي العام الأوروبي.

تحت ضغط المجتمع الدولي، أطلقت قبرص مساراً إصلاحياً عبر التوقيع على جميع اتفاقيات التعاون المالي ومكافحة تبييض الأموال وتمويل النشاطات الإرهابية منذ العام 2014. كذلك، أعلن الرئيس الجديد، نيكوس خريستودوليدس، أنه لن يتساهل مع الفساد.

أشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في أحدث تقاريرها التقييمية، إلى التقدم الذي تحقق منذ ست سنوات لتجديد معيار الشفافية. بدأت حملة تطهير مالي في قطاع التجارة مثلاً للتخلص من عشرات آلاف الشركات الجامدة أو المخالِفة انطلاقاً من قواعد الشفافية المالية.

مع ذلك، لا يزال الطريق طويلاً قبل أن تصل جزيرة قبرص إلى الوضع المنشود، لا سيما على مستوى زيادة مرونة تعاونها مع الآخرين، والتأكد من صحة المعلومات الواردة على بطاقات هوية المستفيدين من الشركات القائمة وتقييم القدرة على تقاسمها، وهي خطوة غير ممكنة في جميع الحالات. على صعيد آخر، يطرح الإشراف على السجلات تحدياً كبيراً لمنع الأسماء المستعارة من إخفاء هوية أصحاب الشركات الحقيقيين، وهي أسماء لا تكشف عنها إلا «تسريبات» كتلك الواردة في تقرير «ملف قبرص السري».


MISS 3