فرانسوا هوغونان

الكنيسة... من زمن الاستشهاد إلى مرسوم التسامح

28 تشرين الثاني 2023

المصدر: Le Monde

02 : 00

كانت الكنيسة الأولى كنيسة الشهداء. قد يصعب تحديد هوية الضحايا بدقة، لكننا نعرف أن آلاف الناس استشهدوا. ترتبط أشهر تواريخ الاضطهادات بأسماء الأباطرة الرومان: نيرون (54-68)، دوميتيان (81-96)، تراجان (98-117)، ماركوس أوريليوس (161-180)، سيبتيموس سيفيروس (193-211)، ماكسيمينوس ثراكس (235-238)، ديسيوس (249-251)، فاليريانوس (253-260)، أوريليان (270-275)، ديوكلتيانوس (284-305).



كان إستفانوس أول الشهداء، وتَرِد تفاصيل رجمه في أعمال الرسل. كذلك، استشهد أسقف مدينة سميرنا، بوليكاربوس، بين العامين 156 و167، واستشهد يوستينوس النابلسي، فيلسوف أفلاطوني من أصل يوناني، بين 163 و168. أما قتل شهداء مدينة ليون، منهم العبدة بلاندين والمطران بوثينوس، فهو يعود إلى العام 177 أو 178، بينما تعرّض شهداء سكيليتان للتعذيب في شمال أفريقيا في العام 180. يُعتبر نص أعمال الشهداء السكيليتيين أقدم نص مسيحي نملكه باللغة اللاتينية.

على صعيد آخر، نعرف باستشهاد بربتوا، الشابة المولودة في عائلة نبيلة، وعبدتها فيليسيتي في قرطاج، في العام 203، بفضل نص بعنوان «آلام بربتوا وفيليسيتي»، حيث يُنقَل إلينا كلام النساء، وهو أمر نادر جداً في المراجع اللاتينية. يثبت هذا المرجع أهمية دور المرأة في أولى الجماعات المسيحية والشجاعة البطولية التي تحلّت بها النساء في تلك الحقبة. يكشف ذلك النص أيضاً التغيّر الذي حصل في العلاقة التي تجمع الرجال أو النساء الأحرار بالعبيد بفضل المسيحية: بنظر الله، «لم يعد العبد أو الإنسان الحر موجوداً»، كما يذكر بولس الرسول في رسالته الى أهل غلاطية. وفي العلاقة التي جمعت بربتوا وفيليسيتي، يتم الترفّع عن اختلاف المكانة الاجتماعية بفضل عامل الحب والإيمان. من الأسقف بوليكاربوس إلى الفيلسوف يوستينوس، ومن الأرستقراطية بربتوا إلى العبدة بلاندين، يتّضح تنوّع انتماءات المسيحيين الأوائل، فهم يأتون من جميع الفئات الاجتماعية، بمن فيهم مفكرون انجذبوا إلى ذكاء الإيمان الذي تميّزت به الديانة المسيحية الناشئة من جهة، والمتواضعون المدعوون إلى تجاوز وضعهم من جهة أخرى.

لفهم حقيقة هذه العيّنة من شهداء الإيمان، يجب أن نعرف أولاً أن الشهيد هو صورة المسيح، كما يذكر القديس بولس في توصياته. يكمن جوهر الاستشهاد الحقيقي في آلام المسيح الذي يتحمّل المعاناة تزامناً مع إظهار قوته الإلهية أمام جلاديه ومن حكموا عليه. يتّضح هذا الجانب في رسائل يوهانين، حيث يتحكّم يسوع بآلامه. يجب أن نفهم أيضاً أن الشهداء يعتبرون الموت أداة مؤكدة للانضمام إلى المسيح في ملكوته. هم لم يقابلوا يسوع شخصياً، لكنه يبقى قريباً منهم بفضل السجلات التاريخية وتناقل الشهادات الشفهية عبر الأشخاص الذين شاهدوه. كان بوليكاربوس مثلاً تلميذاً ليوحنا الإنجيلي الذي شاهد يسوع بنفسه وكان محبوباً منه. نشأ تقارب لا يكفّ عن إبهارنا بين الشهداء والمسيح الذي صعد إلى الآب.

نحو التسامح

بدءاً من العام 250، اتخذت الاضطهادات طابعاً شاملاً لأن المسيحية أصبحت ديانة بارزة، وقد اعتبرها البعض تهديداً على الوثنية التي كانت سائدة في تلك الحقبة. كان أحد أسباب اضطهاد المسيحيين سياسياً. لم تكن المسألة الشائكة تتعلق فعلياً بالإيمان بـألوهية المسيح، بل بفكرة الإيمان به وحده، ما يعني أن المضطهِدين كانوا يرفضون التضحية بالآلهة الآخرين وبالإمبراطور، لأنهم سيجازفون حينها بتهميشهم من المجتمع إذا رفضوا الصلاة للآلهة التي تحمي روما. يثبت استشهاد قبريانوس القرطاجي في العام 258 هذا الخليط بين أسس الإيمان بيسوع المسيح ورفض الاعتراف بشرعية عبادة الإمبراطور.

توقفت حملات الاضطهاد بعد إقرار مرسوم التسامح في ميلانو، في العام 313، بقرار من الإمبراطور قسطنطين الذي كان يؤمن شخصياً بالمسيح، مع أنه لم يكن قد تعمّد بعد. في الوقت نفسه، أحاط قسطنطين نفسه بموظفين مسيحيين. لكن شَهِد عهد يوليانوس آخر حملة اضطهاد واسعة ضد المسيحيين. هو حمل لقب «المرتدّ» لأنه تربّى على الإيمان المسيحي، أو البدعة الآريوسية على وجه التحديد، فأصبح في البداية قيصر بلاد الغال بين العامين 355 و361، ثم أصبح الإمبراطور بين 361 و363. في عهد ثيودوسيوس الذي شهد الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية في العام 392، انتهت حقبة الشهداء وبدأت المسيحية تتطور تدريجاً كي تصبح أكبر ديانة في أوروبا. خلال قرن واحد، تحوّلت الكنيسة من فرع صغير ومُضطَهد من الطائفة اليهودية إلى ديانة رسمية. سمح لها هذا التحوّل بالتوسّع وفرض سيطرتها، لكنه مهّد في الوقت نفسه لمشكلة أكثر تعقيداً، فنشأ صراع طويل بين السلطة الدينية لبابا روما والقوى السياسية التي طبعت العصور الوسطى الطويلة.


MISS 3