جزء أساسي من جسمك يبقى حيّاً بعد سنوات على موتك

02 : 00

يحتوي كل جسم على مجموعة معقّدة من تريليونات الكائنات الدقيقة التي تُعتبر ضرورية للحفاظ على الصحّة طوال الحياة. تسهم تلك الميكروبات التكافلية في هضم الطعام، وإنتاج الفيتامينات الأساسية، وحماية الجسم من العدوى، وأداء وظائف محورية أخرى كثيرة. في المقابل، تعيش الميكروبات التي تتركّز في معظمها داخل الأمعاء وسط بيئة دافئة ومستقرة نسبياً وتتلقّى سيلاً ثابتاً من الإمدادات الغذائية. لكن ما الذي يصيب تلك الكائنات التكافلية الحليفة بعد وفاتنا؟

يهتم خبراء علم الأحياء الدقيقة البيئي بالنكروبيوم (الميكروبات التي تعيش داخل الجسم المتحلل وعليه وفي محيطه) بمعرفة الإرث الميكروبي المتبقّي بعد الوفاة.

قد نفترض أن الميكروبات تموت معنا، على اعتبار أنها تخرج إلى البيئة بعد تحلّل الجسم وتعجز عن الصمود في العالم الحقيقي.

لكن تشمل دراسة جديدة أدلة مفادها أن الميكروبات لا تبقى على قيد الحياة بعد وفاتك فحسب، بل إنها تضطلع بدور أساسي لإعادة تدوير جسمك تمهيداً لإنتاج حياة جديدة.

الحياة الميكروبية بعد الموت

حين تموت، يتوقّف قلبك عن ضخّ الدم الذي يحمل الأكسجين إلى كامل أعضاء جسمك، فتبدأ الخلايا المحرومة من الأكسجين بهضم نفسها خلال عملية التحلل الذاتي.

في غضون ذلك، تبدأ الأنزيمات التي تتواجد في تلك الخلايا وتتولّى في العادة هضم الكربوهيدرات والبروتينات والدهون لاستجماع الطاقة أو النمو بطريقة مدروسة باستهداف الأغشية، والبروتينات، والحمض النووي، وعناصر أخرى تتشكل منها الخلايا.

تصبح نواتج ذلك التفكك الخلوي غذاءً ممتازاً للجراثيم التكافلية، وهي تلجأ إلى مصدر جديد للأغذية في ظل غياب جهاز المناعة لإبقائها تحت السيطرة وتوقف تدفق الأغذية من الجهاز الهضمي.

تنتشر الجراثيم المعوية، لا سيّما ميكروبات الكلوستريديا، في جميع أعضاء جسمك وتلتهمك من الداخل خلال عملية التعفن. ومن دون أي أكسجين داخل الجسم، تتكل جراثيمك اللاهوائية على عمليات إنتاج الطاقة التي لا تتطلّب أي أكسجين، مثل التخمير، فتنشأ الغازات التي تحمل رائحة قوية عند تحلّل الجثة.

على المستوى التطوّري، من المنطقي أن تُطوّر ميكروبات الجسم طرقاً للتكيّف مع جثة هامدة. على غرار الجرذان على متن سفينة غارقة، سرعان ما تضطر الجراثيم للتخلّي عن الجسم المضيف والصمود في العالم لفترة طويلة بما يكفي إلى أن تجد جسماً مضيفاً جديداً لاستعماره.

هي تستفيد من الكربون والمغذيات في جسمك للتكاثر. ويعني توسّع هذه المجموعة زيادة احتمال أن يصمد عدد صغير منها على الأقل في البيئة الخارجية الأكثر عدائية وأن يجد جسماً مضيفاً جديداً.

غزو ميكروبي

عند دفنك تحت التراب، تتدفق ميكروبات جسمك نحو التربة مع سيل من السوائل في مرحلة التحلل. هي تدخل إلى بيئة جديدة بالكامل وتحتكّ بمجموعة ميكروبية مختلفة في التربة.

من الشائع أن تندمج مجموعتان ميكروبيتان مختلفتان في الطبيعة. يحصل هذا الاندماج حين تنمو جذور نبتتَين معاً، أو عند تفريغ مياه الصرف في أحد الأنهار، أو حتى عندما يتبادل شخصان القُبَل.

تتوقف نتيجة الاندماج (أي المجموعة التي تطغى على الأخرى ونوعية الميكروبات الناشطة) على عوامل عدة، منها حجم التغيرات التي تختبرها الميكروبات والأصناف التي تصل إلى تلك البيئة أولاً. تكون ميكروبات الجسم معتادة على بيئة دافئة ومستقرة حيث تتلقى كمية ثابتة من الطعام.

في المقابل، تكون التربة مساحة عدائية يصعب العيش فيها: إنها بيئة معرّضة لتغيّرات كبرى، حيث تكثر التدرّجات الكيماوية والجسدية العميقة وتتعدّد تقلبات الحرارة والرطوبة والمغذيات. كذلك، تستضيف التربة أصلاً مجموعة متنوّعة على نحو استثنائي من الميكروبات، وهي مليئة بمواد التحلّل المعتادة على تلك البيئة، ومن المنطقي أن تتفوّق على أي وافدين جدد.

يسهل أن تتوقّع موت الميكروبات بعد خروجها من جسمك. لكن تكشف دراسات سابقة أن آثار الحمض النووي في الميكروبات المرتبطة بالجسم المضيف يمكن رصدها في التربة تحت الجثة المتحللة، على سطح التربة وفي القبور، بعد أشهر أو سنوات على تحلل أنسجة الجسم الليّنة.

هذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل تبقى تلك الميكروبات على قيد الحياة أم أنها تصبح في حالة خامدة بانتظار العثور على جسم مضيف آخر؟ تذكر الدراسة الجديدة أن ميكروبات الجسم لا تعيش في التربة فحسب، بل تتعاون مع ميكروبات التربة الأصلية أيضاً لتسهيل تحلّل الجثة.

في المختبر، أثبت الباحثون أن دمج التربة وسوائل التحلل مع الميكروبات المرتبطة بالجسم المضيف سرّع إيقاع التحلّل بما يفوق ما يحصل عند الاتكال على ميكروبات التربة وحدها.

تبيّن أيضاً أن الميكروبات المرتبطة بالجسم المضيف تعزّز دورة النيتروجين الذي يُعتبر مغذياً أساسياً للبقاء على قيد الحياة. لكن يكون معظم النيتروجين في كوكب الأرض على شكل غاز في الغلاف الجوي وتعجز الكائنات الحية عن استعماله.

تؤدي مواد التحلل دوراً رئيسياً في إعادة تدوير أشكال عضوية من النيتروجين، فتتحوّل البروتينات مثلاً إلى أنواع غير عضوية تستطيع الميكروبات والنباتات استعمالها، مثل الأمونيوم والنترات.

تشير النتائج الجديدة إلى دور محتمل لميكروبات الجسم في عملية إعادة التدوير عبر تحويل جزيئات كبيرة ومليئة بالنيتروجين، مثل البروتينات والأحماض النووية، إلى أمونيوم. في المرحلة اللاحقة، تستطيع الميكروبات المشبعة بالنترات أن تحوّل الأمونيوم إلى نترات.

الجيل المقبل من الحياة

تُعتبر إعادة تدوير المغذيات المشتقة من المخلفات أو المواد العضوية غير الحيّة عملية أساسية في جميع الأنظمة البيئية. في الأنظمة البيئية الأرضية مثلاً، يؤدي تحلل الحيوانات النافقة أو الجِيَف إلى تعزيز التنوّع البيولوجي، وهو على صلة وثيقة بالشبكات الغذائية.

تحصر الحيوانات الحية دورات الكربون والمغذيات في أي نظام بيئي. هي تجمع المغذّيات والكربون تدريجاً من مناطق واسعة على مرّ حياتها، ثم تضعها دفعةً واحدة في موقع صغير وموضعي حين تنفق.

يستطيع الحيوان النافق أن يدعم شبكة غذائية كاملة من الميكروبات، وحيوانات التربة، ومفصليات الأرجل التي تقتات على الجِيَف. تسهّل الحشرات والحيوانات النابشة للفضلات إعادة توزيع المغذيات في النظام البيئي.

تُحوّل ميكروبات التحلل الكتل المُركّزة من الجزيئات العضوية والغنية بالمغذيات من أجسامنا إلى أشكال أصغر حجماً وذات توافر بيولوجي متزايد يمكن أن تستعملها الكائنات الحية الأخرى لإنتاج حياة جديدة.

ليس غريباً أن تزدهر الحياة النباتية بالقرب من حيوان متحلل، وهو دليل واضح على إعادة تدوير المغذيات في الأجسام ووصولها إلى نظام بيئي جديد. يُعتبر دور ميكروباتنا الأساسي في هذه الدورة جزءاً من الطرق المجهرية التي تجعلنا نتابع العيش بعد الموت.


MISS 3