سينان جيدي

حان الوقت لإعادة النظر بعضوية تركيا في حلف الناتو

8 كانون الأول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أردوغان خلال قمّة الناتو في مدريد | 30 حزيران 2022
في معظم الساحات التي تشمل مصالح أمنية حيوية، يسخّر الرئيس رجب طيب أردوغان جهوده لإضعاف التحالف العابر للأطلسي. كان الإنضمام إلى حلف الناتو أفضل خطوة اتخذتها تركيا في سياستها الخارجية منذ تأسيس جمهوريتها. خلال الحرب الباردة، مَنَع انتسابها إلى الحلف الإتحاد السوفياتي من سحق تركيا وسهّل نموها الإقتصادي باعتبارها حليفة للغرب.

ما الذي يفسّر إذاً اضطرار الحلف الدائم للتعامل مع الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يرفض التعاون أو يتعامل معه بعدائية أحياناً؟ يبدو أن أردوغان يكرّس نفسه في جميع الحالات لإضعاف التحالف العابر للأطلسي. هل حان الوقت إذاً كي يعيد الناتو النظر بعضوية تركيا؟

لم يكن الوضع كذلك دوماً. يحب الدبلوماسيون الأتراك أن يذكّروا نظراءهم الدوليين مراراً بأن تركيا تقع في محيط شائك، وأن الحفاظ على سيادتها يؤكد مهارة أجيال من رجال الدولة الأتراك الذين بذلوا جهوداً متواصلة للحفاظ على الأمن في أنقرة.

يحمل هذا الرأي جوانب صحيحة. كان حسّ عصمت إينونو القيادي أساسياً لإبقاء تركيا خارج الحرب العالمية الثانية، تزامناً مع متابعة التحالف مع الغرب. كذلك، كان النظام الداعم لأتاتورك ثاقب البصيرة بما يكفي لتجنب توريط الجمهورية الجديدة في أي صراع دولي، لأن هذه الخطوة كانت لتعيق النمو الاقتصادي.

لكن بعيداً من البراعة الدبلوماسية، تمكنت تركيا من تحقيق أهدافها التنموية بفضل المظلة الأمنية التي حصلت عليها عبر انتسابها إلى الناتو. انضمت تركيا إلى الحلف في العام 1952، إلى جانب اليونان، انطلاقاً من اقتناع إدارة ترومان بأن احتواء الشيوعية في أوروبا لا يمكن تحقيقه من دون ضمّ هذين البلدين.

من خلال الانضمام إلى الناتو، وبدعمٍ من «عقيدة ترومان» التي سمحت بتقديم مساعدات عسكرية ونقدية (400 مليون دولار لليونان وتركيا)، نجحت أنقرة في بناء جيش قوي ومعاصر، واكتسبت الجمهورية مكانة مؤثرة كانت تسعى إليها منذ فترة طويلة عبر التحالف مع الغرب. كذلك، حصل المسؤولون الأتراك، المدنيون منهم والعسكريون، على مقعد حول طاولة التفاوض، ما سمح لهم بتقييم المخاوف الأمنية مع حلفائهم الغربيين. الأهم من ذلك هو أن عضوية الناتو منحت أنقرة تأثيراً يفوق ثقلها العسكري والاقتصادي.

كان استعداد أنقرة للاضطلاع بأدوار عسكرية في مهام الناتو، مثل كوسوفو وأفغانستان، كفيلاً بمنح تركيا صوتاً مؤثراً داخل الحلف. نتيجةً لذلك، عبّرت إدارات أميركية عدة عن اهتمام خاص بمعالجة مخاوف أنقرة الأمنية، على مستوى الحركة الكردية الانفصالية أو تهديدات روسيا في عهد فلاديمير بوتين.

في تشرين الثاني 2015، بعدما أسقطت تركيا طائرة مقاتلة روسية في مجالها الجوي (إنها أول حادثة من هذا النوع يتورط فيها بلد منتسب إلى الناتو منذ العام 1952)، اضطر بوتين للتفكير ملياً قبل إطلاق رد عسكري ضد أحد أعضاء الحلف. يكفي أن نقول إن تركيا كانت لتواجه مصيراً مشابهاً لما تتعرّض له أوكرانيا منذ العام 2014 لولا انتسابها إلى الناتو.

لكن تغيّر الوضع بطريقة جذرية منذ ذلك الحين. بدءاً من آذار 2022، يعتبر معظم الأتراك الولايات المتحدة أكبر تهديد على تركيا، بينما يحمل 19% منهم فقط هذا الرأي عن روسيا. وفي عهد أردوغان، سعت أنقرة بكل قواها إلى إضعاف أمن الناتو.

في ما يخص توسّع الناتو في الدول الإسكندنافية مثلاً، وهي المنطقة التي يستعملها أردوغان كرهينة لديه منذ العام 2022، ما هي الظروف القادرة على إقناع الرئيس التركي ببذل حدّ أدنى من الجهود المتوقعة من أي عضو في الناتو للمصادقة على عضوية السويد؟ يتعلق الجواب على الأرجح بموافقة واشنطن على بيع الطائرات المقاتلة الجديدة «ف-16» إلى تركيا، أو حتى عقد اجتماع مع الرئيس جو يايدن في البيت الأبيض. يُفترض ألا يُحدد هذا النوع من الصفقات سلوك حلفاء الناتو، بل يجب أن ترتكز تصرفاتهم على القيم المشتركة والتهديدات المطروحة.

يريد الأميركيون وحلفاؤهم ضمّ السويد إلى الناتو أصلاً لأن سلوك روسيا العدائي بدأ يُهدد الأمن الأوروبي، وقد يسمح انتساب السويد بتقوية موقف الناتو في وجه هذا التهديد. لكن لا تبذل تركيا أبسط الجهود المطلوبة لكبح تهديدات روسيا.

في العام 2019، ذهبت تركيا إلى حد اقتناء معدات عسكرية روسية (نظام الصواريخ «س-400»)، علماً أنها تُضعِف تماسك الناتو مباشرةً. كانت هذه الخطوة السبب في استبعاد أنقرة من برنامج الطائرات الأميركي «ف-35» وتعرّضها للعقوبات بموجب «قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات» في عهد دونالد ترامب. مع ذلك، لم يحرّك أردوغان ساكناً للتراجع عن هذا الموقف غير المقبول.

منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022، دعت إدارة جو بايدن أردوغان إلى بذل جهود إضافية لمنع البلد من تقديم بيئة مالية متساهلة تسمح للأوليغارشيين الروس بالتحايل على العقوبات الدولية ونقل الأموال حول العالم عن طريق تركيا (حتى أنها فرضت العقوبات على كيانات تركية أحياناً). لكن لم يتحرك أردوغان في هذا الاتجاه، حتى أن أحدث التقارير تكشف أن تركيا، بموافقة محتملة من الحكومة، سمحت باستعمال مياهها الإقليمية لإصلاح يخت بوتين الشخصي (في أحواض بناء السفن في توزلا).

من الواضح أن تركيا تُضعِف أي ساحة فيها مصالح أمنية حيوية على صلة بحلف الناتو. في خضم الجهود الرامية إلى منع تنظيم «الدولة الإسلامية» من إعادة تجميع نفسه في سوريا مثلاً، تُعتبر «قوات سوريا الديمقراطية» وشركاؤها الأميركيون من أهم الكيانات الإقليمية التي تستطيع أن تضمن بقاء مقاتلي التنظيم داخل السجون، تزامناً مع متابعة تنفيذ مهام مكافحة الإرهاب ضد بقاياه في أنحاء المنطقة. لكن أطلقت أنقرة ضربات عسكرية ضد «قوات سوريا الديمقراطية» التي تعتبرها جماعة إرهابية. كذلك، هددت تلك الاعتداءات في مناسبات عدة حياة الجنود الأميركيين، ما أجبر الجيش الأميركي على إسقاط طائرة تركية مسيّرة.

بين العامين 2019 و2022، أضعف أردوغان علناً أمن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط عبر التهديد بغزو اليونان المنتسبة إلى الناتو وضمّ جزء من قبرص المنتسبة إلى الاتحاد الأوروبي، بسبب مساحات متنازع عليها من المياه الإقليمية، لا سيما تلك المرتبطة بحقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي. يبدو أن موقف أردوغان العدائي في المنطقة بات أكثر هدوءاً في العام 2023، لكنه استبدله بدعم تركيا المستمر للإرهاب. بعد هجوم حركة «حماس» في 7 تشرين الأول ومقتل أكثر من 1200 شخص في إسرائيل، زاد التدقيق بدعم أنقرة المخجل لتلك الحركة التي تضعها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب. قد لا تكون إسرائيل جزءاً من الناتو، لكن سارع معظم أعضاء الحلف إلى دعمها في أحلك ظروفها. في المقابل، اعتبر أردوغان «حماس» جماعة من «المجاهدين» الذين يقاتلون في سبيل الحرية وقدّم لها دعماً دبلوماسياً ومالياً وعسكرياً.

لو قدّمت أنقرة طلباً للانتساب إلى الناتو اليوم، ما كان أحد ليفكر بهذا الاحتمال أو يوافق عليه. يضطر الجميع لتحمّلها الآن نظراً إلى غياب أي آلية لاستبعاد الأعضاء بعد انضمامهم. يسهل أن نعتبر هذا الجانب جزءاً من العيوب الواضحة في تصميم الحلف، وهو خطأ ما كان يُفترض أن يحصل منذ البداية. إنها فكرة مبررة، لكن صُمّم الناتو في الأصل لكبح تهديدات الاتحاد السوفياتي، ولم يتوقع مهندسو الحلف على الأرجح أن يضطر الناتو يوماً لوضع استراتيجية ضد التهديدات التي يطرحها أحد أعضائه.

قد يكون تغيير قواعد العضوية صعباً، لكن قد تصبح الظروف الراهنة فرصة مناسبة لبدء هذا النوع من النقاشات، نظراً إلى كمّ التحديات التي يواجهها نصف الأرض الغربي. في الحد الأدنى، يُفترض أن يوحّد أعضاء الناتو صفوفهم ويتفقوا على عدم بيع أي قدرات دفاعية، مثل الطائرات المقاتلة، إلى أنقرة طالما تحتفظ بالأنظمة الروسية القادرة على إضعاف الدفاع الجماعي. بالنسبة إلى إدارة بايدن ووزارة الخارجية الأميركية اللتين تبذلان جميع الجهود اللازمة منعاً لخسارة تركيا، فات الأوان على قراءة «قانون مكافحة الشغب» على مسامع أردوغان: إما أن يكون البلد حليفاً للناتو، ما يعني أن يوافق على القيم المشتركة، وإما ألا يكون. حان الوقت كي تتخذ تركيا موقفاً واضحاً.


MISS 3