عيسى مخلوف

الثقافة والفنّ في مسرح العنف

9 كانون الأول 2023

02 : 03

الحرب المتواصلة على غزّة صورة لواقع العالم اليوم وانقسامه وتَحَلُّله. مَن يُناصر قضيّة مُحِقّة ويطالب بوضع نهاية لنزيف مستمرّ منذ أكثر من سبعين عاماً، يُتَّهم، في الغرب السياسي المسيطر، بالانحياز والوقوف بجانب التطرُّف. لا بدّ من اتخاذ موقف ضدّ قتل المدنيين إلى أيّ جهة انتموا، لكن أن يتحوّل قتل الأبرياء والأطفال خبزاً يوميّاً على مرأى من البشريّة جمعاء، ويستمرّ فعل القتل بهذه الوتيرة المرعبة، فهذه واحدة من اللحظات التاريخيّة الفارِقة التي يُطرح فيها السؤال حول مصير المعنى الإنساني نفسه.

انعكاسات الحرب كونيّة أيضاً، يطالعنا في مرآتها واقع العالم الراهن في جميع الحقول والميادين، ولقد تركت أثرها الواضح في المشهد الثقافي والإبداعي ككلّ، ولدى المفكّرين والكتّاب والفنّانين وتجّار الفنّون وأصحاب المجموعات الفنية. في التاسع من الشهر الجاري، سحبت دار «كريستيز» لوحتين للفنان اللبناني أيمن بعلبكي من مزاد جرى في لندن لفنون الشرق الأوسط. تمثّل إحدى اللوحتين وجه رجل مغطّى بكوفيّة، وعنوانها «الملثّم»، أما اللوحة الثانية وعنوانها «مجهول» فيظهر فيها رجل يرتدي قناع غاز وجبهته مطوّقة بعصابة كُتبَ عليها باللون الأحمر وباللغة العربية: «ثائرون». إذا كان هذا هو السبب الذي منع «كريستيز» من أن تعرض لوحتَي بعلبكي في المزاد، فثمّة فنانون عرب ومن جنسيّات مختلفة وجدوا أنفسهم في الموقف نفسه بمجرّد أنّهم وقّعوا على بيان يدين المجزرة في حقّ الشعب الفلسطيني، أو لأنهم عبّروا في وسائل التواصل الاجتماعي عن آرائهم المنادية بوقف الحرب، ومن هؤلاء من أدان العمليّة التي قامت بها حركة حماس أيضاً. في التاسع عشر من شهر تشرين الأوّل الماضي، وقَّعَ ثمانية آلاف شخص من الفاعلين في الحقل الفنّي على بيان نشرته مجلّة «آرت فورم» الأميركيّة» وهزّ الوسط الفنّي الأميركي بأكمله، واعتبره عدد من الغاليريات المهمّة «انحيازاً إلى فريق دون آخر»، لأنّ الموقّعين انتصروا للفلسطينيين وطالبوا بـ»وقف إطلاق النار وتحرير فلسطين».

هكذا فجّرت الحرب على غزّة عالم الفنون التشكيليّة في الغرب وكشفت عن المعايير التي تحكمه وتحكم الحياة الثقافيّة والإبداعيّة بشكل عامّ. فهذه المعايير لا تنحصر فقط في المال والمردوديّة المادّيّة فحسب، وإنما تسيطر عليها كذلك اعتبارات وحسابات سياسيّة. وهذا ما طالعنا مؤخّراً في إدارة بعض المدارس والجامعات ومراكز البحوث العلميّة، كما بيَّنّا في مقال سابق، ما يجعل مبدأ حرية التعبير، هنا والآن، مسألة نسبيّة وغير محسوم أمرها على الإطلاق. لذلك لجأ عدد كبير من الكتّاب والفنانين الغربيين، أو المقيمين في الغرب، إلى الصمت وعدم التعبير عن مواقفهم حيال ما يجري، خشية أن يُرفض نَشر أعمالهم أو أن يُطردوا من صالات العرض والمتاحف. إنها الرقابة الذاتية التي بدأ يفرضها الفنّانون والكتّاب على أنفسهم وتتجلّى الآن في أوضح صورها... وكم يبدو المشهد الإبداعيّ اليوم رخواً وهشّاً أمام سلطة المال وسطوة السياسة، ليس داخل الأنظمة الشموليّة وحدها، بل في العالم أجمع. وأيّ قيمة لوسائل إعلاميّة، من بينها عدد من كبريات الصحف العالميّة، حين تتواطأ مع القاتل ضدّ المقتول، أو حين تُفاضِل بين ضحيّة وأخرى من هذا الجانب أو ذاك، أو حين تضع الفريقَين في سلّة واحدة وتعزل الأحداث الراهنة عن سياقها التاريخي والموضوعي؟ وإذا كان هذا هو تقويمها السياسي والإنساني، فأيّ مصداقيّة تبقى لتقويمها الثقافي والإبداعي والفنّي؟

في هذا السياق، ذكر الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو، المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، في منشور له على منصّة التواصل الاجتماعي «إكس»، نقلاً عن أحد البحّاثة الفرنسيين (فضّل عدم ذكر اسمه، وهو يعمل في مركز للبحوث): «»لقد تلقّينا تعليمات بعدم مناقشة الوضع في غزّة. الإدارة منعت البحّاثة من كتابة مقالات تتعلّق بهذا الموضوع، ومَن لا يتقيّد بذلك يُحال إلى اللجنة التأديبيّة». وأضاف: «الأمر خطير، والوضع في بعض المراكز متوتّر للغاية. إنها المرة الأولى منذ عقود يُطلب منّا التزام الصمت»! ينهي مالبرونو منشوره بالقول: «سنحتفظ بالرسائل الرقميّة، لأنّ الحقيقة ستظهر يوماً».

في موازاة ذلك، تتزايد في العالم أجمع الأصوات التي تعبّر عن آرائها من دون الخضوع لسلاح التهديد والخوف، وتطالب بإنهاء الاحتلال وبحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. في العام 1979، كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: «فلسطين مشبعة بالدم والعنف. ومن المؤسف القول إنّ قضية فلسطين محكوم عليها بأن تتكرّر بأشكال نعرفها جيّداً. لكنّ من يتألّف منهم شعب فلسطين، من العرب واليهود على السواء، يرتبط ماضيهم ومستقبلهم ارتباطاً وثيقاً، وهم مدعوّون إلى تجديد أنفسهم. لقاؤهم لم يتمّ بعدُ، لكنّي أدرك أنه سيحصل يوماً، وسيكون من أجل مصلحتهم المشتركة». كم يبدو بعيداً هذا الكلام الآن وأبناء فلسطين يُذبحون علناً، في لحظة تاريخيّة يسقط فيها المعنى الإنساني. مع ذلك، لا بدّ من التمعُّن في كلّ كلمة من كلمات إدوارد سعيد من أجل وضع حدّ لمأساة تنتقل من جيل إلى آخر.