حسان الزين

"ليس انتقاصاً من مقام بيروت أن نتحدث عن الغانيات والمواخير والمخدرات"

لينة كريدية: بطلاتي حادّات من أجل الجدل

9 كانون الأول 2023

02 : 06

تحمل روايات لينة كريدية كثيراً من المفاجآت الصادمة التي تثير الأسئلة. فهذه الكاتبة، التي لا تتردّد في تجريب الأساليب، تهتمّ بالهوامش والعوالم الخفية والسرّية في مدينتها بيروت. ومن هذه المساحات تجمع شخصيّاتها، إناثاً وذكوراً، وتذهب بعيداً في كشف ما هو خاص وحميم ومهمَل وخارج التقاليد والسائد أو الظاهر، وما هو مصدر ألم ومعاناة وتجارب إنسانية، في الذات وفي الحياة والمجتمع. وفي هذا الاطار، ونظراً إلى كون بيروت مكان شخصياتها ورواياتها، فإن كثيراً من الأسئلة تطرح، لا سيما في شأن «واقعية» بطلاتها. وقد رافق ذلك أعمالها كلّها: «خان زاده»، «نساء يوسف»، «ما ودعك صاحبك»، «غانيات بيروت» و»العرجون اللجين». ولمناسبة صدور عملها الأخير عن «دار النهضة العربية» التي تديرها، كان هذا الحوار.



لماذا اخترت الغانيات والنساء واليهود لتروي عن بيروت... هناك من هم في السلطة وأهم من هؤلاء في القرار والتّأثير في المدينة ومصائرها؟

إنها سلطة الهوامش بالنسبة إليّ شخصياً كروائية، حيث تستطيع الأقليّات وما هو خارج عن سياسة الأكثرية تشكيل معضلة أو مفارقة أتمكّن من خلالها من سرد رواية مختلفة وإلقاء نظرة على المجتمع تختلف عن السائد والمتعارف عليه.

روايتك عموماً عن ناس بيروت ومصائرهم وتحوّلاتهم أو عن بيروت المدينة؟

تتسلّل بيروت مني في معظم رواياتي، فهي مسقط رأسي وترعرعت في إحدى أقدم مناطقها أي المصيطبة. بتلقائية تخرج تفاصيل بيروت ضمن سياق الرواية، في تناغم مع الزمان والشخصيات، فتحضر بيروت المكان بسلاسة طبيعية.

بيروت في أعمالك معذّبة، مثل امرأة، مثل بطلاتك، تبحث عن سعادتها وأوقاتها ونفسها، في الحرب، في التناقضات، في الصخب، في الشعارات والتجارب السياسية، كيف ترين بيروت المدينة؟

بيروت عاصمة مثل كل عواصم العالم، هناك وجوه لها ولا نستطيع اختصارها كما يفعل البعض بتلك المدينة المبهرة التي تتلألأ بالأضواء والإبداع والرقي والحضارة، بل هناك وجه مظلم، وقد كتبته في رواية «غانيات بيروت». ربّما كنت قاسية على مدينتي حين ذكرت كم هي ظالمة أحياناً على فقرائها ونسائها، وبحكم التسلسل الاجتماعي الضاغط، وما فيها من رطوبة وبحر غدّار. بيروت التي تستقبل جميع القادمين من الوطن أو خارجه وتحاول الاستمرار بطقوسها وعاداتها، هي التي شهدت كل أنواع الحروب وحاولت دائماً النهوض والتعالي فوق خسائرها وجراحها. ولا أظنّ أنه من المعيب أو أنّه انتقاص من مقام بيروت أن نتحدث عن المواخير والغانيات والمخدرات كما نتحدث عن المقاومة والمبدعين. فالعاصمة تستوعب الجميع وكل شيء.



لينة كريدية: لا بدّ من التجربة بأساليب كتابية مختلفة حديثة



تحضر في رواياتك المرأة الهشّة اجتماعياً، الخاسرة، الهائمة، (جيهان وروعة في «خان زادة» مثلاً) التي تتنقّل بين الحلم والحنين والتطرّف (لا تعرف أنصاف الحلول)، هل في ذلك موقف نسوي أم أنك ببساطة تصوّرين الواقع؟

بالنسبة إليّ، لا يوجد شيء اسمه أدب نسوي. هناك أدب يلامس النفس البشرية بخلطة بين الفكرة واللغة والإبداع، وأدب يفشل في نقل التفاعل. لذلك بطلاتي حادّات كي يخلقن هذا الجوّ من الجدل. القارئ ليس بحاجة إلى ما هو عادي وروتيني، هو ذاته يشكو منه. بطلاتي نساء على حافة الهاوية، والقارئ إمّا يكرههنّ أو يتضامن معهنّ، ولا هامش لغير ذلك. في رواية «ما ودعك صاحبك»، تكلمت بصيغة البطل الذكر المطلق، وهو أيضاً هائم تتكسّر أحلامه الكبيرة كل يوم ليهرب بحثاً عن الخلاص. أبطالي كلّهم هدفهم إيصال أسئلة وجودية. ولا ضرورة أن تكون النهايات مفرحة أو إيجابية.



ما ودّعك صاحبك



كأنك لا تتركين خيارات لبطلاتك، هنّ أسيرات حتى في الخيارات المتطرّفة أو الحادّة التي يذهبن إليها، ولا نعرف إذا كنّ اخترن أم انتقلن تلقائياً... إلى أي حدّ رواياتك وبطلاتك حقيقيات؟

في البدء، يُخلق كل شيء من الحقيقة. ولكن، ما هي مهمّة الروائي في هذا السياق؟ لن تكون هناك روايات بل سير شخصية. ما يضيفه الخيال واشتباكات الرؤية والأحدات والجنوح، هو ما يصنع الرواية ويحمّس القارئ على سبر غورها. بطلاتي حقيقيات وغير حقيقيات، ربما جزئيات تتكامل بين واقع ومتخيّل. والسؤال الأبرز الذي يطرحه عليّ قرّاء رواياتي هو عن واقعية الشخصيّات، خصوصاً «جيهان» في روايتي «خان زاده»، وقد توسّل إليّ أحدهم كي يتعرّف إليها. أحياناً، أدمج شخصيات عدّة في شخصية واحدة، مع مراعاة الفروق النفسية، كي تنسجم. كلّ الشخصيّات حقيقية وكلّها وهمية.

تختلط في أعمالك مصائر الشخصيات وهوياتها الأولية والمكتسبة (يهود + غانيات)، هل برأيك الهويات تلك تحكم المصائر... في واقعنا، كل فرد منا محكوم بهويّته ومصيره؟يحكمنا كل شيء في الحياة، الدين، البيئة، الوضع الاجتماعي، ولكن ما يميّز البشر هو طريقة التفاعل مع الظروف والمتغيّرات. فمن يجابه يختلف عمّن ينكفئ. وهنا، تخلق الفروق بينهم. معضلة التسيير أو التخيير تتدرّج من روح الإيمان إلى نقاش فلسفي شائك أرهق الفكر. ودائماً الفروق الفردية هي ما يغيّر جذرياً وتيرة الحدث وما يمكن أن يكون متوقّعاً.



غانيات بيروت



رواية «العرجون اللجين» فيها كثير من التجريد والخيال، ويحضر فيها اليهود والفكر العربي وزعماء القومية العربية وسياساتهم... هناك اشتباك ما بين الخيال والمشهد العربي الواقعي... إلى أي مدى نجحت في هذه الخلطة؟

«العرجون اللجين» رواية مكتوبة باللغة العربية، ولكن بحداثة تتشابه مع أنماط روائية أوروبية وأميركية تجريبية، خلافاً للسائد والمتعارف عليه، من حيث تكثيف الأفكار وضغطها في كلام موجز وديناميكية حركية عالية لتشابك الأحداث والإشكاليات والعقد وحبك التاريخ بالمستقبل المتخيل. كل هذا يجعل الرواية نسخة متطورة لتحديث الأدب الروائي العربي ورؤيته المستقبلية، ليخرج عمّا استكان إليه لأعوام طويلة. لا بدّ من التجربة بأساليب مختلفة حديثة. لا بدّ من رمي حجارة في المستنقع الراكد، ولو لم يكتب لجميع الأعمال النجاح، فالتجريب ضرورة. من المبكر أن نقيّم نجاح خلطة «العرجون اللجين»، خصوصاً أن هناك مَن أحبّها وهنّأني، وهناك من أصابتهم بالارتباك ولم يستطيعوا اللحاق بالإيقاع. وكان ربط الأحداث عسيراً، لا سيّما التاريخية.



نساء يوسف



كيف تقيّمين الوضع الثقافي في بيروت؟

بيروت مدينة أرهقتها الحروب وموجات النزوح، والجهل، والانتهازيون والفاسدون. تعبت من الأذى، فأنّت هي ومثقّفوها ومبدعوها ليعملوا من أجل لقمة عيش تكفل كرامتهم، لكنها تهدر كثيراً من وقتهم المفترض أن يُخصّص لمشاريعهم الإبداعية. وعلى الرغم من أجواء الحروب كلها، وكالعادة، تحاول بيروت النهوض بجهود فردية. كمية الإبداع وأعداد المبدعين في لبنان كبيرة جداً، وخصوصاً إذا ما تمّت مقارنتها بعدد السكان في لبنان وفي دول العالم العربي. نرى دوماً شباباً يطرحون الجديد من أفكار وأعمال حديثة في مختلف أنواع الأدب والفنون، ومخضرمين يحفرون عميقاً في تجاربهم. بيروت كانت وستبقى ولّادة.

هل يمكن أن تعرضي لنا، كناشرة وروائية، مشهد النشر في العالم العربي وأحواله؟

المنطقة العربية تشهد ارتباكاً كبيراً، خصوصاً منذ الربيع العربي الذي أمسى خريفاً نظراً إلى نتائج ما بعد الثورات. وهناك أزمات اقتصادية واجتماعية وصحّية. كل ذلك يؤثّر في الثقافة والنشر. والكتاب الورقي والإلكتروني يشهد تراجعاً كبيراً في ظل ارتفاع كلفة النشر وسرعة الميديا وسهولة الحصول على هذا المنتج من دون تكلفة، وغالباً بطرق غير قانونيّة. هناك خروقات ومحاولات في كل مكان، لكن المشهد العام متفائل بخجل ولا يدعو إلى المغامرة، في وقت أصبحت فيه المستلزمات الأساسية للحياة هي الهم الشاغل للمواطنين، أما الثقافة واقتناء الكتب، مثلاً، فباتا من الكماليات. لكن، في حين نرى دور نشر تقلّص إنتاجها أو تقفل، نرى ولادة دور نشر جديدة تحاول شقّ طريقها، وذلك بحسب بلدها وظروفه. العالم العربي بحاجة إلى سنوات كي يلتمس خريطة مستقبله الثقافي، لا سيّما أنه يرقد في مستنقع الحروب والتفاهة والجهل.



خان زاده



إحتضان الشعراء الشباب وترجمة إلى لغات أخرى

أطلقت «دار النهضة العربية» في بيروت في 2006، مشروعها الأول لنشر الشعر الحديث وخصوصاً قصيدة النثر. والهدف «تشجيع الشعراء الشباب العرب ونشر أعمالهم إلى جانب الشعراء المخضرمين المميّزين». وما زال المشروع مستمرّاً، «مع اختلاف بسيط هو أننا نتحكم بكمية النشر نتيجة الأوضاع الإقليمية السياسية والاقتصادية. وتؤكد كريدية أن «المستوى العام الصارم ثابت».

وتقول كريدية: «مشروعنا منذ 15 عاماً هو إعادة البريق إلى بيروت كمنبع الإبداع الشعري الحديث. وقد فتح هذا آفاقَ تعاون ووفّر توجهات كبرى تخدم الشعر والثقافة في عالمنا العربي».

وفي السياق ذاته، تضيف: «أطلقنا، في بداية جائحة كورونا، في الأول من شباط 2020، مشروع «أصوات» لدعم إصدار الشعر وتقديم شعراء عرب جُدد، ولضمان بقاء الشعر في المشهد الأدبي العربي، باعتباره وسيلة تؤرّخ لعلاقة الفرد بذاته ومحيطه، بالإضافة إلى موقفه وموقعه من الأزمات والحروب والتحوّلات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية». تتابع: «انطلقت الإصدارات بمجموعات شعريّة إلكترونية وورقية تماشياً مع التطوّر الإلكتروني. وضمّت الدفعة الأولى من ’أصوات‘ عشر مجموعات شعرية لأصوات شابة من الوطن العربي. لاحقاً، ومن أجل توسعة المشروع وضمان وصوله، حصلنا على تمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) في فئة الكتابة الإبداعية، دعماً للشعر ولمكانته في خريطة الأدب العربي المعاصر. وصدرت دفعة جديدة من الأصوات الشابة العربية بلغ عددها 20. وقد تعاونّا في مشاريع نشر عربية مع دور أخرى ناشطة تشاركنا هذا الهمّ في احتضان الشعر والالتفات إليه في هذا الوقت بالذات».

وفيما يحضر هذا «الشق الشبابي» في أعمال الدار، تلفت كريدية إلى «السعي إلى التوافق مع دور نشر متنوعة غربية، لترجمة منتجات العربية إلى لغات أخرى».


MISS 3