ناتاليا أنتونوفا

رئيسة "المركزي" الروسي تُدير حملتها الدعائية الخاصة

18 كانون الأول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيسة البنك المركزي الروسي الفيرا نابيولينا في الكرملين

أثار جمود الوضع القائم بين أوكرانيا وروسيا إحباط الكثيرين، بما في ذلك قائد الجيش الأوكراني. تعثّر الهجوم المضاد في معظمه هذه السنة ولم يحرز أي تقدّم حقيقي، ويزداد الوضع سوءاً لأن أوكرانيا لا تزال تفتقر إلى بعض التكنولوجيا لمساعدتها على تحقيق إنجازات مهمة. لكن كان مفاجئاً أن يغيب جانب أساسي من الصراع ضد روسيا من النقاش الأخير حول الوسائل التي تسمح لأوكرانيا بتحقيق الفوز.



يتعلق ذلك الجانب بالاقتصاد الروسي والمسؤولين عن تماسكه، من أمثال إلفيرا نابيولينا، رئيسة البنك المركزي الروسي. يبدو أن الكثيرين يغفلون عن دور نابيولينا في معظم الأوقات لأنها امرأة، لكن حتى الخبير الاقتصادي الموهوب يالمار شاخت لم يكن نجم عدد كبير من الأعمال الوثائقية. قد ينجح خبراء الاقتصاد في متابعة تحريك عجلة الحرب، لكن يسهل تجاهلهم لأنهم لا يرتدون ملابس لافتة ولا يظهرون في كل مكان.



الفيرا نابيولينا


تحمل نابيولينا سجلاً حافلاً بالنجاحات كخبيرة اقتصادية، فهي تمكنت مراراً من إنقاذ روسيا من العقوبات التي تلت الهجوم الروسي الأولي ضد أوكرانيا في العام 2014. شملت قراراتها استهداف مشكلة التضخم وتعويم سعر الصرف، فحصلت على فرصة لإجراء لقاءات إيجابية مع صندوق النقد الدولي، فيما كان رؤساؤها يتابعون قتل الأوكرانيين قبيل الغزو الشامل في العام 2022. ثم حصلت نابيولينا على إشادة متزايدة باعتبارها منسّقة ناجحة لسياسات الاقتصاد الروسي، ما سمح بمنع انتشار الهلع.



بعد وقتٍ قصير على بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في شباط 2022، سارعت مصادر روسية إلى إبلاغ الصحافيين الغربيين بأن نابيولينا حاولت الاستقالة لكن لم يسمح لها الرئيس فلاديمير بوتين بالتنحي. سرعان ما انتشرت شائعات كثيرة عن هذه المسألة، كما يحصل دوماً في روسيا: تطرقت بعض الأخبار إلى تعرّض نابيولينا للابتزاز، أو إقدام أشخاص مقرّبين من بوتين على ترهيبها، أو عرض صور زوجها مع امرأة أخرى أمامها لإحباطها...



حُذِفت معلومات أكثر دناءة لاحقاً من مواقع الشائعات، ما يُسهّل تصديقها. يبدو هذا النوع من الحملات الدعائية مثيراً للاهتمام، فهو يعكس خطاب شاخت شخصياً، علماً أن الأفكار التي استعملها للدفاع عن نفسه في «نورمبرغ» كانت تتمحور حول إصراره على أنه لا يتمتع بقوة كافية لوقف هتلر وأنه كان يتواصل مع المقاومة.

يصعب تصديق كلام نابيولينا إذا كانت محاصرة أو إذا وقعت ضحية الوضع المستجد. هي قامت بواجباتها على أكمل وجه لدرجة أن تبدو إنجازاتها غير واقعية. أنا شخصياً خصّصتُ أول سنة من حرب روسيا لتحليل التوتر القائم بين الكرملين والبنك المركزي، فقد كان الكرملين يدعم الفاشيين المتعطشين للدماء، بينما يفضّل البنك المركزي مواقف البراغماتيين الذين لا يرغبون في انهيار الاقتصاد الروسي. كذلك، تكثر الأدلة على حصول البنك المركزي على مساحة كافية لتخريب آلة الحرب الروسية لو أنه قرر القيام بذلك.



قدّمت مصادر مجهولة لا تريد أن تقبض عليها الشرطة السرية الروسية أدلة كثيرة من هذا النوع، لكن لا داعي للتكلم عن خبراء اقتصاد مرعوبين عبر هاتف مؤقّت لفهم حجم الجهود التي بذلتها نابيولينا لمتابعة تعويم عملة الروبل. شملت استراتيجيتها زيادة جريئة للأسعار وتواصلاً دائماً مع الرأي العام الروسي، فهي تعرف طبعاً كلفة الهلع. عندما كانت نابيولينا تنفّذ رؤيتها، لطالما تعرّضت للهجوم من المحافظين والمتطرفين الدينيين في عالم السياسة ووسائل الإعلام الروسية، لكنها لم تسمح لهذه الظروف بردعها.

من المتوقع أن يخسر البنك المركزي معركة تعويم الروبل في مرحلة معيّنة، لكن لن يحصل ذلك بسرعة كافية. لا يزال موت الأوكرانيين الأبرياء مستمراً، بينما يستغل الديماغوجيون وأنصار بوتين على حد سواء هذه المرحلة من الحرب لدعوة الحكومات الغربية إلى التخلي عن أوكرانيا بالكامل.



لكنّ الفجوة بين الكفاءة التكنوقراطية النسبية في البنك المركزي ومطالب آلة الحرب الروسية لا تزال قائمة ويمكن استغلالها في أي لحظة. يُعتبر الخوف الروسي من الغرق في الفقر قوة مؤثرة في هذا المجال. سبق وواجه ملايين الروس هذا الوضع، ومن المتوقع أن ينضم إليهم عدد إضافي من الناس، مع أن البيانات المزوّرة والخاضعة للتلاعب تنفي هذه المشكلة.

وحتى الروس الأكبر سناً الذين يعيشون حياة مريحة نسبياً اليوم يحتفظون بذكريات مؤلمة عن تخلّف البلد عن سداد الديون والفوضى الاقتصادية التي سادت خلال التسعينات، وهي الظروف التي ساعدت بوتين أصلاً في الاستيلاء على السلطة.



يتسلل هذا الخوف إلى مختلف المجالات، بدءاً من الخطاب السياسي (يحاول بوتين وأتباعه تذكير الروس دوماً بأن إدارته هي التي أنقذتهم)، وصولاً إلى الثقافة الشعبية الروسية وعوامل أخرى. تتّضح هذه الأجواء عبر قوة الهوس الذي يحمله الأثرياء الروس بالترف الفاحش. قد يصبح هذا العامل محفزاً إيجابياً أو يُمعن في زعزعة الوضع. في الوقت نفسه، قد تميل هذه الفئة من الناس إلى دعم الحرب، لكنّ القلق الاقتصادي يُضعِف علاقتهم بالكرملين.



أصبحت هذه الهشاشة واضحة في الشكوك العميقة التي يحملها معظم الروس العاديين تجاه خبراء الاقتصاد، والمسؤولين التكنوقراط، وأشخاص آخرين يعتبرونهم غير جديرين بالثقة. ترسّخت هذه الانقسامات الاجتماعية لأن الإحصاءات الاقتصادية الروسية لا يمكن الوثوق بها أصلاً.



يكذب الكرملين بكل وقاحة بشأن آفاقه الاقتصادية على الغرب وشعبه، لكنّ الروس هم الأكثر قدرة على رصد تلك الأكاذيب. هم يعرفون حجم النفاق في حكومتهم أكثر من معظم المحللين الغربيين، وتنتج هذه المعرفة فرصاً إضافية لنشر الفوضى لأن الكرملين بنفسه هو الذي أنشأ أساس انعدام الثقة والتمرد.



ثمة تنسيق واضح بين البنك المركزي والكرملين، لكن تشمل علاقتهما مفارقة بارزة، إذ يرغب البنك المركزي في أن يصبح الاقتصاد الروسي أكثر شفافية وأن ينشط بشكلٍ سليم، بينما يطلق الكرملين دوامة فاشية مطوّلة قد تمنع تحقيق هذه الأهداف. قد تتصدع العلاقة القائمة بين الطرفَين بعد تعمّق تلك التناقضات وتضييق الخناق على الاقتصاد.

لا شك في أن المحافظين الروس المتعصبين سيسارعون إلى لوم نابيولينا حين تعجز البيانات الاقتصادية المزوّرة عن إلهاء الناس وإشاحة نظرهم عن حقيقة ما يحصل. لكن في ظل تلاحق المشاكل المالية، لا مفر من أن يخسر الكرملين والبنك المركزي في آن. تتعدد المجازفات السياسية القابلة للتفاقم في هذه الفترة، إذ يسهل أن تزداد هشاشة البنك المركزي بسبب تراجع الثقة به، ومن المعروف أن الضعف موجود كي يستغله البعض في زمن الحرب.

MISS 3