فلورانس روزييه

اللسان... عضو استثنائيّ

28 كانون الأول 2023

المصدر: Le Monde

02 : 00

منذ 365 مليون سنة، كانت أولى رباعيات الأرجل لا تزال تعيش في شرانقها المائية. كانت أرجلها الأربع تعجز في تلك الحقبة عن التحرّك في البرّ، فبقيت في الماء أثناء التزاوج ونموّ بيضها. لكن على مرّ عشرة ملايين سنة أو 15 مليون سنة في المرحلة اللاحقة، اكتسبت تلك الحيوانات تدريجياً القدرة على التحرّك برّاً. أصبح غزو القارات ممكناً منذ ذلك الحين. عندما انتشرت رباعيات الأرجل في أنحاء الأرض منذ 350 مليون سنة، كان العالم مليئاً أصلاً بمجموعة كبيرة من الحشرات، والعثّ، والقشريات، وكثيرات الأرجل.



كتلة عضلية معقّدة

وجدت رباعيات الأرجل في تلك القارات بيئة جاهزة، ولم تعد تواجه التهديدات من الحيوانات البحرية المفترسة، وسرعان ما أنتجت خطاً تطوّرياً مزدهراً يفهم جميع أنواع الزواحف، وحتى الطيور، والبرمائيات، والثدييات المعاصرة، بما في ذلك الجنس البشري. أصبح نموّ اللسان بعد وصولها إلى هذه البيئة البرّية حتمياً: إنه عضو حيوي يقع في تجويف الفم، ويستطيع نقل المأكولات المستهلكة إلى الجهة الخلفية من الحنجرة، ويشارك في المصّ، وتثبيت الأغذية، ومضغها، وبدء البلع. هكذا كانت مهامه الأولية. أضيفت إليها في المراحل اللاحقة مهام أخرى مثل المشاركة في الرضاعة لدى الثدييات، ثم إنتاج الأصوات لدى الرئيسيات البشرية.

قد يكون اللسان من الأنسجة الوحيدة التي تتمتّع بهذا المستوى من التعقيدات العضلية. لكن يصعب تحديد حقبة ظهوره. على غرار جميع الأنسجة الرخوة، لم يترك اللسان أي آثار في البقايا الأحفورية. لكن تسمح خصائص المصّ والبلع وتحليلات عظام فك الحيوانات بطرح بعض النظريات.

ما من تعريف واضح لمعنى «اللسان الحقيقي». هو يشبه على الأرجح لسان البشر الذي نعرفه، ما يعني أنه عبارة عن كتلة ممتلئة ومرنة ومتحركة تتألف بشكلٍ شبه حصري من العضلات وأنسجة رخوة أخرى وتتمتع بهامش واسع للتحرك. إنها الخصائص التي تحملها ألسنة معظم الثدييات، علماً أنها تتّسم بتشريح عضلي داخلي شبه موحّد. تحافظ هذه العضلات على حجمها، بغض النظر عن التغيّرات في شكلها.

لكن تكيّفت ألسنة الثدييات مع أسلوب حياة جميع الأجناس. قد تطول الألسنة الطويلة والرفيعة بدرجة غير متكافئة، كما يحصل مع آكلات النمل وحيوانات أخرى تضطر لإخراج لسانها لمسافات طويلة. في المقابل، يعجز اللسان القصير والممتلئ عن بلوغ مسافات بعيدة، لكنه قد يخوض تغيّرات معقّدة.

يكون لسان العصفور مثلاً صغيراً جداً، وهو ليس كثيف العضلات، باستثناء لسان الببّغاء، وتبقى حركاته المستقلة محدودة. لكن تستعمله الطيور المغرّدة للبلع وكسر الحبوب عبر دفعها وسحبها بدقة بين طرفَي المنقار. هي تقوم بهذه المهمة بسرعة فائقة من خلال تنسيق حركات المنقار واللسان.

أحياناً، يتمتّع اللسان بوظيفة دفاعية. تكون السحلية ذات اللسان الأزرق فضولية جداً مثلاً، وهي تتعرّف إلى الناس. يعكس لسانها الأزرق الضوء في الأشعة فوق البنفسجية، فينتج تبايناً واضحاً مع بقية عناصر الفم، ما يدفع الحيوان المفترس إلى الهرب.

في ما يخص الثدييات، ظهرت هذه الكائنات منذ 200 مليون سنة تقريباً، وكانت هذه العملية بطيئة جداً. يكون اللسان لدى هذه الفصيلة أضخم وأقوى وأكثر غنى بالأعصاب، ما يسمح للصغار بالرضاعة وللأكبر سناً بالأكل بطريقة فاعلة.

تنسيق بين اليد والفم

حين يرضع الطفل، ينخفض فكّه السفلي ولسانه، فيتراجع الضغط داخل الفم ويتدفّق الحليب من الثدي. لكن قد تزيد صعوبة الرضاعة عند وجود عيوب في اللسان وفي قدرته على ضبط نفسه. هذا ما يحصل مثلاً إذا كانت ربطة اللسان شائبة: إنه النسيج الذي يبقي اللسان في قاع الفم. يمكن تصحيح هذا الخلل بسهولة. لكن ترتبط معظم المشاكل الغذائية لدى الأطفال الرضّع باختلالات عصبية تؤثر بقدرة اللسان على التحكّم بنفسه.

ينشغل العلماء منذ فترة طويلة باستكشاف سلوك بشري شائع: لماذا يمدّ الطفل لسانه في معظم الأوقات حين يشير بيده إلى غرض معيّن؟ تتكرّر هذه الحركة أيضاً عندما يتعلم الأولاد الكتابة أو يسجّل الرياضيون هدفاً...

هل يتحكّم مركز دماغي بحركة استهداف الأشياء عن طريق اللسان أو اليد؟ تكشف تجربة على الفئران أن دائرة من الخلايا العصبية المحدّدة في القشرة الدماغية تتحكّم على ما يبدو بالتنسيق الحاصل بين اليد والفم عند التلاعب بالمأكولات.

بعبارة أخرى، ظهرت منطقة واحدة للسيطرة على اليد واللسان معاً على مرّ مراحل التطوّر. إنه أمر منطقي. حين خرجت الفقاريات من الماء، بدأت تستعمل لسانها للأكل قبل أن تلجأ إلى يديها. برزت الحاجة إذاً إلى تنسيق حركات اللسان واليدين. سمح هذا النوع من التنسيق لدى الرئيسيات، بما في ذلك البشر، بإتمام مهام أكثر تعقيداً. نحن اكتسبنا في البداية القدرة على إمساك الأغراض عبر الفم، ثم اللسان، ثم اليد، وأخيراً الروح.

تأثيره على النطق وإصدار الأصوات

اللسان هو الذي يعطي معنى للأصوات التي تخرج من الفم. يمكننا أن نتكلم بفضل الحركات السريعة والدقيقة التي تقوم بها عضلاته، بالتعاون مع عضلات الشفاه، والفكَّين، وغشاء اللهاة، ما يسمح لنا بلفظ المقاطع الصوتية والحروف الساكنة والمتحرّكة، أي إصدار الأصوات المتنوّعة التي تُميّز الجنس البشري الاجتماعي.

لكن لا يُعتبر اللسان بحد ذاته مصدراً للكلام، بل إنه يشتق من الرئتَين: يصعّد النَفَس ويمرّ بالحنجرة حيث يهزّ الأحبال الصوتية. لتحويل الموجات الصوتية إلى كلام حقيقي، يجب أن تخترق التجاويف التي تطغى على الطيات الصوتية (أعلى الحنجرة، البلعوم، تجاويف الفم والأنف). يحصل التحوّل في هذه المنطقة بالذات، فتتضخّم الموجة الصوتية وتُصفّيها حركات «مفاصل» الفم التي تتّسم بالدقة والسرعة: الفك، اللسان، الشفاه، غشاء اللهاة. في هذه المرحلة، يسهل أن ينساب الكلام أو الغناء.

يكون اللسان إذاً ناشطاً جداً من دون أن نشعر بذلك. هو يتقدّم أو يتراجع تزامناً مع إغلاق الفم عند التفوّه بالحروف المتحركة، كما أنه يتدخل عند لفظ الحروف الساكنة. حتى أنه قد يكون مسؤولاً أحياناً عن مشاكل النطق مثل اللثغة بسبب سوء وضعيته عند التلفظ بأحرف معيّنة. يمكن معالجة هذا الخلل عبر جلسات إعادة تأهيل. أما الهسهسة، فهي تنجم عن مرور الهواء بين طرفَي اللسان أثناء النطق.

الكلام ميزة ميكانيكية وصوتية ودماغية دقيقة، وهو يشير إلى قفزة تطوّرية تُميّز البشر من الأجناس الحيوانية الأخرى. يستعمل البشر جميع الخصائص التي تتمتّع بها أداتهم الصوتية للتواصل في ما بينهم، لا سيما الدقة الحركية للسان. يتّخذ اللسان لدى الرئيسيات غير البشرية وضعيات متنوّعة ويكون التحكّم بحركته مبهراً. لكن يستعمل البشر من جهتهم عشرات آلاف الكلمات ويجيدون 7 آلاف لغة مختلفة حول العالم.

كيف ظهرت اللغة المحكية إذاً؟ يفترض العلماء أنها نشأت بعد ظهور العظم اللامي الذي يقع تحت الحنجرة ويمكن تعليقه: هو لا يتّصل ببقية الهيكل العظمي عبر مفصل معيّن، وتقضي مهمّته بدعم جذور عضلات اللسان القوية. يقع هذا العظم في مكان منخفض لدى الإنسان، على عكس قرود الشمبانزي، ما يسمح للحنجرة بالهبوط وترك مساحة واسعة لتخزين الأصداء والتردّدات في الطيات الصوتية. لكن شكّك البعض بنظرية هبوط الحنجرة حين استنتج باحثون فرنسيون، في بداية العام 2017، أن قرود البابون تُصدِر خمسة أصوات مشابهة للحروف المتحرّكة البشرية على الأقل رغم ارتفاع مستوى الحنجرة لديها.