جيمي الزاخم

ساحة النور بطرابلس: حيث تتقاطع الثقافة والحياة في قلب المدينة

4 كانون الثاني 2024

02 : 00

في بغداد، القاهرة، دمشق، عمّان، الرَّباط وغيرها من المدن العربية، مكتبات رصيف شهيرة. بعضُها بقي وتجذّر في مكانه. وأخرى غابت قبل أو بعد غياب أصحابها. هي أرصفةٌ من إسمنت وكتب. استوطنت الهواءَ الطلق بين غيمة وشمس، بين تجارة وهواية. في لبنان، مكتبات رصيف نادرة سكنت ذاكرةَ المكان والقرّاء في بيروت، بعلبكّ، الجنوب... اليوم، تستضيفُنا مكتبةُ رصيف في مدينة طرابلس الشّمالية، في ساحتها الأشهر «ساحة عبد الحميد كرامي» أو «ساحة النور». هذه المدينة التي سيُحتفى بها كعاصمةٍ للثقافة العربية لعام 2024 بتراثها، آثارها، ثقافتها وأمكنتها.

كلّ مكان هو شاهد. ولكلّ شاهد قصّتُه. هذه الساحة كانت وما زالت نبضاً لوجه المدينة بكل تجلّياته، إشراقاته وتجاعيده. في تاريخِها القريب والبعيد، شهدت اعتصامات واحتجاجات مُطالِبةً بقضايا محلّية وحملت أصوات هموم قوميّة عربيّة. في الستينات وبحضور الرئيس فؤاد شهاب، كُشف الستار عن تمثال عبد الحميد كرامي الذي توسّط الساحة. في الثمانينات، وفي عزّ الحرب وتوتّراتها، أزيل التمثال. حلّ مكانَه على الدوّار الشهير نصبٌ ضخم يحمل اسم الجلالة: «الله». وأُضيف، في سجلّ التسميات، اسمُ «ساحة النور».

هذا النور يراه محمد الأحمد «أبو أسامة» في مكتبته التي استَلْقَت على قدَمي المبنى الضخم الشهير الذي صُبغ بالعلم اللبناني بعد تشرين 2019. «الساحة رمزٌ لطرابلس. وبعد «17 تشرين»، دوّى في الساحة صوتُ الحقّ والحرية والتعدّد. فانتقلنا من رصيف التلّ المقابل لمبنى البلدية إلى ساحة النور. كتابُنا كما الساحة أرضٌ خصبة بتعدّد المضامين والتوجّهات». هنا، صوتُ الكتب خافتٌ أمام أبواق السيارات والباصات المزدحمة المتسرّبة بين بائع ذرة يلتقط رزقه، وبائع كعك تلتقط عيناه صبيّةً عابرين. الإثنان، ككثيرين غيرهم، يأكلان من عيون الأرض. لا تغويهم نظراتُ الكتب ولا تجذُبُهم أحضانُها الحبريّة. مئات الأقدام يومياً تطأ هذا الرصيف. والكتاب ينتظر يداً تمتدّ إليه، تعانقُه وتَقيه لفحاتِ «كوانين اللي بتخزّق المصارين».

لا كتب سوداً ولا خطوط حمراً

لَحِق محمّد الشاب العشرينيّ بأبيه إلى ساحة التلّ، منذ أكثر من عشرين عاماً. عاون والدَه في مكتبته على رصيف ساحة التلّ. كان المنزل الوالديّ يحتوي حوالى ثلاثين كتاباً. تحوّلت الحروف إلى «مصدر دخل للعائلة على حافة مدخل المنشيّة. الظروف تحكُمنا بين فَقر وتعتير. فاخترع الوالد مصلحة ليجود بالموجود». مرّت السنوات. تغيّرت وازدادت الكتب. «اليوم أحتفظُ في مستودعي بكميّة تتجاوز الألف كتاب. أنتقي منها عناوينَ لأعرضها على هذه البسطة الشعبيّة». يجمعُها أبو أسامة من خلال شراء مكتباتٍ منزليّة هاجر أصحابُها أو ماتوا. ويستفيد أيضاً من تصفيات دور النشر ليختار «مؤلّفات متنوّعةً متعدّدةَ المشارب والعقائد». لا يضع كتباً على لائحة الحروف السوداء الممنوعة والمُهينة. «نحن لا نتبنّى مضمونَ ما نعرضه. لكن ما في عنّا خطوط حمر بكلّ الأقسام والمواضيع سواء الإجتماعية، الجنسية، الدينيّة المتطرّفة أو المُلحِدة...». هنا «دنيا» علوية الصبح تتحاور مع «الرواية» لنوال السعداوي. وكتاب عن القديس شربل يصلّي مع الإمام الغزالي. على المقعد نفسه، يجلس أنطون سعادة وسمير جعجع.

الكتاب: صديق وقت الضيق؟

لا يدّعي محمد رفاهية ثقافية. «هذا مأ أسّسناه. وهيدا اللّي بعرف إشتغلو». كلماته لا تنتحل فلسفةَ أسماء يحرس إبداعاتِها. قدماه على تراب. وصوته من مملكة الوجع المحكومة بديكتاتور الحرمان. لا يسافر على أجنحة حروف ذهبيّة. يفرش أحلامه البسيطة على بساط كتب لا يطير. «بحلم إفتح مكتبة صغيرة. ينتقد البعض وضعَ الكتاب على الرصيف على مستوى أقدام المارة وبين ذرات الغبار. ولكن أنا مش تاجر كبير. ولا قدرنا نعمل مصاري. وما زلنا مصرّين على هامش ربح غير كبير في ظلّ الأزمة الاقتصادية والثقافية». لا يُطالع محمد كثيراً. لكنّ الكتاب الورقيّ صديقه بملمس اليَدين وعبق التعب. هو صديقه لكنّه لا يسنده في وقت ضيقه. «الإقبال تراجع كثيراً ويتضاءل يوماً بعد يوم. لكنّ رمزيّة مكتبتي وقيمة الكتاب يُدركها المثقفون. اعتدتُ على طلباتهم وزياراتهم المتكرّرة. كما تقصدني كافة الطبقات والاتجاهات».

صديقُنا الكتاب لا تُغري صداقتَه الجميع. لمدّة ساعة ونيّف، مرّ العشرات. كثيرون رَمَوْا نظراتهم بطرف عيونهم على الكتب. قسمٌ توقّف لثوانٍ. جذبهم المشهدُ بمغناطيس معطَّل. وقلّة غاصت. استكشفت. وسألت. هذا شاب عشرينيّ، وذاك متقاعد ستّينيّ. هذه مُدرِّسة وتلك طفلة في الصفّ السادس الابتدائي. الأولى تُعجبها الأسعار. والثانية تعشقُ اللغةَ العربية. سمير زبون أبي أسامة. بشكل دوريّ، يتزوّد منه بمونة كتبٍ يُتاجر بها عبر الإنترنت. «أشتري من عدّة أماكن لأنّ الكميات المطلوبة حرزانة. الطلب يتفاوت حسب المناطق والاختصاصات والوظائف». جواد العراقيّ يسكن في لبنان. اصطحب ابنَه «ملتهم الكتب». إبراهيم من دير الزور الطبيب في العلاج البديل ينقّب بين العناوين. بمصطلحات رصينة يقول إنّ «موضوع الكتاب هو الأهمّ. تستهويني كتب التاريخ والتراث العربيّ. لدينا كنز هائل بين أيدينا لا نقدّره. بينما في بلدان غربية زرتُها، الشعوب تقرأ في الأماكن العامّة. أمّا نحن فنخجل بالكلمة رغم أنّنا أصلها وفصلُها». أمّا زينة مدرّسة التاريخ تريد ولا تريد أن تشتري. «أنا أغار على الكتاب. حتى لو كان الكتاب غنيّاً بمضمونه، قيمتُه تقلّ على الرصيف: هنا الألماس بيصير قزاز». أحمد الموظّف المتقاعد يسبح في المكتبات. يقصدها ليضيف كتباً إلى مكتبته المنزلية ذات الأربعة آلاف كتاب عن علم النفس، التاريخ، الأدب والشعر اللبنانيَّيْن. هؤلاء وغيرهم يتوقّفون ويتفحّصون. ثمّ ينطلقون نحو هدفهم. الكلّ يسير إلى المجهول، الفرح المؤجّل أو الموت البطيء. تُكتَب روايةٌ في كلّ عين من عيون المارّة. «عينينا هنّي أسامينا». عيوننا هي حكايتُنا. هي خشبة مسرحيّتنا الداخلية. هي أوراق كتاب حياتنا المطمورة والمفتوحة التي تمرّ على غبار أوراق نَعيٍ تعلو مكتبةَ الرصيف. الكتب تقبّل أسماء متوفّين لم تقابلْهم. لا ندري من يعزّي من! الكتاب أَمْ المرحوم؟ الثاني يقول للأول: «العوض بسلامتك»؟ أم أنّ الأول يقول للثاني: «يلّا لاحقك»؟.

MISS 3