كارين عبد النور

أحد طلّاب "اللبنانية"... "شهيداً" في أطروحة الحياة

"شهادة" أكاديميّة تُحيي جدليّة "أيّ لبنان نريد؟"

15 كانون الثاني 2024

02 : 00

الشهادة

«شهادة» فخرية بدرجة «شهيد» في أطروحة الحياة للطالب في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، علي إدريس سلمان. حدث هذا مؤخّراً بعد سقوط الطالب على أرض المعركة جنوباً. سابقة من نوعها؟ ربّما. الشهادة تُحتَرم وتُجلّ؟ بالتأكيد. لكنّ الأمر يعيد طرْح السؤال حيال أي لبنان يريد اللبنانيون. اعتدنا، على سبيل التبسيط، توصيف الإنقسام المفهومي ذاك بوجود ثقافتَين مختلفتَين على أرض الوطن الواحد – ما يسمّيه البعض بثقافتَي الحياة والموت. إنمّا بغضّ النظر، كيف يعلّل مَن هُم «مع» ومَن هُم «ضدّ» الواقعة تلك... بحيثيّاتها وأبعادها؟



لم يكن صعباً أن نحدّد من أين نبدأ بالأسئلة، فتوجّهنا إلى مدير الفرع الأول في معهد العلوم الاجتماعية، حيث مُنحت الشهادة، الدكتور عاطف الموسوي. لكنه فضّل إحالة أسئلتنا إلى مجموعة من الدكاترة الأكاديميين لأنه «عندما أتبنّى إجابات الآخرين يكون هذا رأيي بواسطتهم، وهذا هو فعل الشهيد الذي تبعثه الشهادة ليصبح موجوداً من خلال الآخرين من أبناء مجتمعه الذي استشهد من أجله»، كما أخبرنا.



د.عاطف الموسوي


وهكذا كرّت سبحة الإجابات بواسطة الدكتور الموسوي. وزير الشباب والرياضة في حكومة تصريف الأعمال، الدكتور جورج كلّاس، اعتبر أن الشهادة الممنوحة لسلمان هي «وردة على ضريح الطالب المرتقي شهيداً، ووقفة وفاء تصدح عالياً بأنه باقٍ في القلب والوجدان». فأهميّتها المعنوية، بحسب الدكتور هيكل الراعي، أنها «تقدير لما قام به الشهيد من أعمال بطولية دفاعاً عن لبنان وعن كرامته وعزَّته». لا بل هي «احترام لِمَن قدّم نفسه للوطن، وسلوان للأهل على ولدهم»، وفق الدكتورة عفّة أبو شقرا.

نسأل الموسوي إن كانت فكرته لقيت تشجيعاً أم اعتراضاً في الأوساط الجامعية، فأشار إلى أن رئيس الجامعة، الدكتور بسّام بدران، سبق ونعى الشهيد سلمان معرباً عن «حزن الجامعة لفَقد شاب تميَّز بالأخلاق الفاضلة واكتسب ثقة ومحبّة أساتذته وزملائه». الدكتورة هيفاء سلام لفتت إلى أن «قرار منْح الشهادة الفخرية تمّ تداوله في مجلس فرع المعهد، وحظي بموافقة الجميع رغم اختلاف توجّهاتهم». كلام أكّده ممثّل الأساتذة في المعهد، الدكتور حسين رحّال، بقوله: «هذا الحدث كان نتيجة إجماع من الأساتذة والطلّاب، لأنه تعبير واضح عن الإجماع اللبناني في مواجهة العدوّ الصهيوني».


د. هيفاء سلام



«شهادات» متنوّعة

نسأل الموسوي (ومن خلاله) أكثر. هل ما حصل يعكس تبنّي الجامعة لثقافة معيَّنة يرفضها الكثيرون؟ «إذا اعتبر البعض محاربة العدوّ وتحرير الأرض والدفاع عنها ثقافة وصورة يرفضهما، فتلك مشكلته»، على حدّ قول الدكتورة رولا نصر. «إنها ثقافة الحياة والدفاع عن الوطن عبر تخريج طلّاب مبدعين قادرين على انتشال لبنان من براثن التبعية والاستزلام للسفارات التي هدّدت لبنان ودعمت كيان العدوّ الغاصب»، بالنسبة للدكتور كلود عطية. أمّا الدكتور عبد الله محي الدين، فاعتبر الفكرة «تجنّياً وتأتي في إطار الاستخدامات السياسية والحزبية الفئوية في لبنان».

لكن كيف يمكن التوفيق بين طلّاب يسعون وراء شهادات أكاديمية وآخرين يتشوّقون لنَيل شهادات «شهادة»؟ يجيب الدكتور نزار أبو جودة: «اسم جريدتكم «نداء الوطن»، وعندما ينادي الوطن أبناءه فهم مشروع شهادة في سبيل بقاء المجتمع. إنه واجب كل مواطن وجندي ومقاوم دفاعاً عن الوطن في وجه عدوّ غاصب». رأي دعمه الدكتور حسين أبو رضا، حيث وصّف الشهادة في سبيل الوطن بـ»أكبر الشهادات». وأردفت الدكتورة نصر أن «جميع الطلّاب يطمحون للاستحصال على شهادات علمية، والشهيد سلمان كان حاضراً في المعهد قبل يومين من استشهاده يتابع محاضراته». إذ «لا دخل للجامعة بمعتقدات الطلّاب، إنما هي تسهر على تحقيق طموحهم وأحلامهم للحصول على شهادات متنوّعة»، برأي الدكتور كلود زوين.

إتّهام مجافٍ للحقيقة؟

وثمة المزيد. هل أصبح طلّاب الجامعة محاطين بأفكار تجرّهم إلى الموت بدلاً من تشبّثهم بالحياة؟ «نحن في منطقة فرضت علينا الحرب فرضاً منذ إنشاء إسرائيل في العام 1948. واتّهامكم للجامعة بنشر أفكار الموت مجافٍ للحقيقة. نعلّم طلّابنا التحليل السياسي والتنموي بعيون إبستيمولوجية، لكننا أمام عدوّ يقتل شعبنا باعتباره «جوييم» ( من عير اليهود)، لذا فالأمل بالوصول إلى برّ الأمان يُختصر بممارسة الحق المشروع في الدفاع عن النفس»، بحسب الدكتور فداء أبي حيدر.

وماذا عن إدخال مفهوم الشهادة إلى المؤسسات التربوية التي يجب أن تكون سلاحاً في وجه التطرّف؟ «هذا المفهوم حاضر عند الناس وهو نتيجة قرار شخصي. والجامعة تستقبل طلّاباً من شرائح اجتماعية متنوّعة»، تجيب الدكتورة خديجة مصطفى. أما الدكتورة إقبال شرف الدين، فاعتبرت أن هذا المفهوم «يُبرز التزام الجامعة بقِيَم العدالة الاجتماعية وتعزيز التفاعل الإيجابي مع التنوّع الثقافي. فمن خلال تكريم الطالب الشهيد، تقف الجامعة كرمز للتضامن والترابط الإنساني». وعن التطرّف، عقّبت الدكتورة نصر: «علينا تحديد المفهوم وضبطه». وتساءلت إن كان الدفاع عن الأرض والإنسان ومحاربة المعتدي تطرّفاً. وختم الموسوي مع كلام للدكتور كلّاس: «ارتقى علي سليمان من مرتبة الطالب إلى رتبة الشهيد، دفاعاً استبساليّاً في وجه الإبادة المذبحية الإسرائيلية».



د.علي خليفة


آثار طغيان البُعد الإيديولوجي

وإلى «وجهة النظر» الأخرى من خارج إجابات الدكتور الموسوي. أستاذ التربية على المواطنية في الجامعة اللبنانية والمؤسس في حركة التحرّر الشيعي، الدكتور علي خليفة، يخبر «نداء الوطن» أنه يحدث في بعض دفعات التخرّج أن يتوفّى أحد الطلّاب فيتذكّره رفاقه ويُبقون له على شهادة تخرُّجه عربون محبّة واستدامة لذكره. أما أن تُعطى شهادة فخرية استحقاقاً لدرجة «شهيد»، فخروج عن الأعراف الأكاديمية السائدة، وطغيان للبُعد الإيديولوجي والسياسي. «يجب ألّا يتحوّل فرع معهد العلوم الاجتماعية الذي يديره أحد المحسوبين على «حزب الله» إلى حوزة دينية أو مقرّ حزبي. أخطر ما في الأمر أن يفرض المسؤول الإداري التزاماته الحزبية والسياسية والدينية على برامج الإعداد الجامعي، خصوصاً أن العلوم الاجتماعية، على وجه التحديد، تشكّل مجالاً لدرس المجتمع وخصائصه وتقييم مساهمة الدين فيه بشكل موضوعي وناقد».

وأضاف خليفة أن وجود متحزّب وصاحب إيديولوجيا دينية مغلَقة في سدّة القرار الإداري يثير تساؤلات حول المواضيع التي يتمّ حجبها من التداول في مقابل ما يتمّ السعي للترويج له. «نحن، في حركة التحرّر، نرفض الاستثمار السياسي والحزبي في دماء من يسقطون ضحايا على طرقات الجنوب. هذه الحرب غير المتكافئة لا غطاء وطنياً لها لأنها تتعارض مع أدوار الدولة في الدفاع والأمن ولا تحظى بالوحدة الوطنية للشعب وتُعرّض المجتمع لشتّى الأضرار الاقتصادية والاجتماعية». هي ليست المرة الأولى التي نشهد أحداثاً مماثلة (وممارسات مرفوضة) نتيجة للتبعية الحزبية والسياسية للعميد أو للمدير، يقول خليفة. «في أحد معاهد الدكتوراه، قرّر أحد العمداء المحسوبين على «حزب الله» ذات يوم أن يمنع المشروب، بدافع ديني، خلال الاحتفال التقليدي الذي يلي مناقشة أطاريح الدكتوراه».


لا لمصادرة الهوية الثقافية

منذ زمن والسؤال يتكرّر: هل ما زالت الجامعة اللبنانية لكلّ الوطن؟ «الجامعة لا تتبنى فكراً دينياً. وبهذا المعنى، هي جامعة الدولة. والدولة في لبنان هي دولة مدنية، لا دينية. لكن قد تنشأ بعض الممارسات الطائفية في بعض الفروع حيث تطغى على المناطق مناخات سياسية وصبغات طائفية»، يجيب خليفة. فالتفريع الذي حصل للجامعة أثناء الحرب لا ينسجم مع قِيَمها ورسالتها، إذ من غير المقبول أن يكون هناك فروع أولى للمسلمين وفروع ثانية للمسيحيين، لغايات طائفية بحتة. لذا، لا بدّ من استمرار العمل على ما يجمعنا في ثقافة وطنية. «أنا اللبناني الشيعي يشبهني اللبناني المسيحي أكثر من الشيعي غير اللبناني. وما تمّ إسقاطه على البيئة الشيعية تحديداً من خلال «حزب الله» لا يشبه التاريخ الثقافي والسياسي للشيعة. نرفض مصادرة «الحزب»هوية اللبنانيين الشيعة الثقافية مثلما درج على احتكار القضايا الوطنية الكبرى كالمقاومة والمتاجرة فيها».

بالفكر والحفاظ على الاختلاف كمصدر غنى في المجتمع نحارب التطرّف. هكذا يرى خليفة الحلّ. فالتيارات الإيديولوجية المتشدّدة تأبى التمايُز وتقيم مشروعها على أساس امتلاكها الحقيقة المطلقة. ومن ليس على ذات الموجة فخائن أو عميل تسعى للتخلّص منه. «الجامعة مجال حيوي لتبادُل الأفكار وتلاقحها ويجب أن تبقى كذلك. أدعو رئاستها إلى مزيد من الحوكمة في إدارتها، وإعادة النظر بالتفريع ليلبّي حاجات المناطق. كما لا بدّ من عودة الانتخابات الطلّابية إليها لتصبح مختبراً للأفكار والطروحات بعيداً من التطرّف والغلواء والتبعية».

د.ميشال شمّاعي



تنافُس المختلفين حضارياً

الباحث والكاتب السياسي، الدكتور ميشال شمّاعي، لفت بدوره لـ»نداء الوطن» إلى أننا خُلِقنا للحياة بكرامة وليس للموت، وأن كل شهادة تُمنح لأي مُتعلّم إنما تكون بعد تحصيله مخرجاتٍ تربوية معيَّنة. أما الشهادات الفخرية، فتُعطى في جامعات العالَم عملاً بالإنجازات الإنسانية التي يحقّقها أيّ شخص في أي مجال. لكن أن تُمنح من مؤسسات تربوية وطنية، فمخالفة لأبسط القواعد الأكاديمية، وهي ظاهرة خطيرة لأنّها تعمل على تثبيت نهج عقائدي - إيديولوجي يقوم على ثقافة الموت للحياة بعيداً من القِيَم الوطنية. «نحن لا نُخوّن أو نُأسرل أو نُسَورن أو نُثَورن من لا يؤمن بقناعاتنا. نقبل الآخر لكن نأبى أن يعمل على فرض قناعاته علينا. وبالتالي هذه عملية تغيير حضاري - هويَّاتي سنتصدّى لها بكلّ ما أوتينا من قدرات فكرية وحضارية لنحافظ على الكِيانية اللبنانية التي وحدها تشبه فكرنا الحضاري».

ويذهب شمّاعي إلى اعتبار الاختلاف الحضاري الذي نجح «حزب الله» بتزكيته وتسعيره بين المتعلّمين يدعو إلى إعادة تفكير جدّية للبحث في أي لبنان يريد هؤلاء. وأنهى قائلاً: «مفهوم الشهادة للحقّ والحقيقة هو المفهوم الأسمى إنسانياً الذي تربّينا عليه. أما أن يتحوّل إلى السعي للموت، فهذا خطر ينتزع صورة الله من الإنسان. لا يمكن محاربة التطرّف والإرهاب إلّا بتربية تقوم على قِيَم المحبّة والسلام والإنسانية. ولا يمكن مواجهة هذه المشاريع التغييرية إلّا بمزيد من النَمذجة على أسُس الحريّة الشخصية الكِيانية... وذلك لا يكون إلا في دولة اتّحادية - حيادية تجمع المختلفين حضارياً ليتنافسوا في ما بينهم، بهدف خدمة إنسان هذه الدولة أفضل خدمة».




السؤال الدائم

MISS 3