جيمي الزاخم

من نَوّارة أحمد فؤاد نجم إلى أبيها: رسالةُ مُصارحة ومصالَحة

17 كانون الثاني 2024

02 : 03

مشهدُه الأخير «يليق بما يُسمّى في الدراما الخروج العظيم للبطل الدراميّ»

في كانون الأول 2013، غاب جسدُ الشاعر المصريّ أحمد فؤاد نجم عن قصيدة الحياة. قصيدة كتبتْها سنوه الأربعة والثمانون بحروف صاخبة وقوافي عمرٍ لاذعة. وفي العاشر من الغياب، حملت الابنةُ الوسطى الكاتبة نوّارة نجم أباها. كتبتْه وكتبت عمرَها الحاضر الغائب معه. فصدر «وإنت السبب يابا» عام 2023. تجمع نوّارة شملَ العائلة التي تفشّت فيها لوثةُ الموت. الابنة الكبرى عفاف تُوفّيت بعد عام من رحيل الوالد. وبداية العام 2022 ختمتْ حياةً ثلاثينيّة للابنة الصغرى زينب. وبين موت وموت، بقيت نوّارة وحدها من الثالوث النجميّ البيولوجيّ. كوّنته ثلاثُ بنات من 3 نساء ومن رجل بحَيَوات ثقيلة تُعشّش على غصن نوّارة. غصن يمدّ يدَه إلى سماء الماضي. ويقطف منها نجوماً يعلّقها أقراطاً في أذن الحاضر والمستقبل.



العنوان اقترحتْه الوالدة الكاتبة صافيناز كاظم على ابنتها بعد قراءة المسوّدة. إنّه عنوان قصيدةٍ كتبها نجم لمسلسل «حضرة المتهم أبي»، بعد نقاشٍ دار بين الابنة وأبيها عن علاقتهما. يقول الابن في شارة البداية: «نازل وأنا ماشي ع الشّوك برِجْليَّ، وإنت السبب يابا يلّي خَليت بيّ، لا فَرَشتلي بستان ولا حتّى برّ أمان». فيردّ الوالد في شارة النهاية: «حقّك على عيني يا ابني يا نور عيني/ لأجل الوفاء بديني، لك عندي بعض كلام... أنا كنت وَحْداني والدنيا واخداني... إنصفني يا ولدي». أنصفتْه نوّارة بعدما فهمت أنّ الآباء لا يُفصَّلون جميعهم في مصانعَ عاليةِ الجَوْدة والمسؤولية. لا تتّهم أباها، لكنّها لا تُبرّئه. لا تُدينه، لكنّها لا تتجاوز تصرّفاتِه دون توضيح وتحليل. الكتاب كتبتْه نوّارة لتكون قارءَتَه الأولى. تكشِف وتكتَشف. تُراجع نفسَها وقدَرها في كتاب ننتظره لنُضيف إلى وجه نجم عيونَ الوالد. والدٌ فرشَ في العلن دُنياه بكلّ عيوبها وأشواكها. لم يُفلتِر زيوتَه وشوائبه. لم يحاول أبو الجلّابية البلديّة تلميعَ ثوب عمره بمساحيقِ التعطير والتجميل. هكذا مهّد، عن قصد أو غير قصد، لنوّارة أن تُخرِج حياتَه وحياتَها من وكرها دون أن تُحرَج. فلا تُماثل ما أصدره بعض أولاد الأدباء العرب الذين كتبوا عن أهلهم ما يُضفي على المديح مديحاً.

الكتاب جلسةُ مصارحة، مصافحة ومصالحة. كانت غائبة بينهما. علاقتُهما تُعنوَن بـِ»أبي دائم التحرّك. وأنا دائمة الركض خلفه». بموته، أصبح بإمكانها التقاطَه بهدوء وحكمة. إنّها تحاصره وتحضنَه لتفهمه. في سنينها الأولى، انتظرت خروجه من السجن. الآن، تنتظر خروجَه من موته الذي لم تتقبّله وظلّت تحاول الاتصالَ به لعلّه يجيبها. بين بدايةِ ونهاية الكتاب، نفحاتٌ ونسمات تبدّلت على مدار حياة عاشها «مثل الزئبق. والعثور عليه أمرٌ شاقّ». الموت سهّل الأمر الشاقّ وأسكنَه ذاكرةَ وأحلام فتاة عاشت جزءاً من طفولتها مع والدٍ بالصور والتسجيلات الصوتية. بين الاعتقال والاختباء ونمط العيش العابث العشوائيّ، صبغت عالمَها طفولةٌ عاشتْها من خلاله أو معه أو من دونه. أَوْقفت عقاربَ الوقت على مشاهدَ عرّتها من صبغات الزمن وحنّطتها. الطفولة غرزت وعلّمت. وغلّفت غلافَ الكتاب مع صورة في حضن الوالد. الإثنان ينظران نحو الكاميرا، باتجاهنا واتجاه المستقبل. لكلّ منهما نظرته وضحكته وقلبه. بهذه الصورة تُعوّض أو تعنون طفولةً ناقصة كانت نادرةً فيها «لحظاتُ السعادة الصافية التي لا يشوبها الخوف والقلق والمرارة». تنطلق من الخاص لتفسّر وتنصح مستندةً إلى تجربتِها وعلم النفس والاجتماع. اللّاوعي تحوّل إلى وعي مع فتاة تدرك أهميَّةَ الوالد وموهبته. هي من الجيل الأول من المدوِّنات المصريّات. مع كلّ الحفاوة التي استُقبلت بها كتاباتُها، كان همّها رأي الأب. «وكان شديد الفخر».



الصورة تُعوّض أو تعنون طفولتها الناقصة



بين طيّات الكتاب، مجموعةُ مشاعرَ ومواقف تقول نوّارة إنّها أزعجتها، أضحكتْها وأحزنتها. تتشاركها اليوم لتروي قصّتَها كابنة، وأيضاً كمواطنة مصرية بكيان مستقل مع قلم صحافيّ ورأي ومواقف وتحوّلات عاشتْها والمجتمع المصريّ سياسيّاً واجتماعياً. تجربتُها غنيّة. هي ابنة الأب وابنة فكرها وصفاتها وحياتها مع والدة سمّتها «نوارة الانتصار» لأنّها وُلدت بعد أيام من اندلاع حرب «أكتوبر 73». صافيناز كاظم قديرة وشديدة النظام. أحمد فؤاد نجم عفويّ عشوائيّ. والدة ووالد بعقليّتين مختلفتين وعالمين متناقضَين. «لا أفهم لماذا تزوّجا أساساً؟». بعد طلاقهما، يجتمعان حول نوارة في حياتها وفي كتابها الذي يكشف خطوطاً من روح نجم. «هو ليس بالشخص القويّ في ما يتعلّق بمواجهة المواقف الإنسانية. هو قويّ فقط بمواجهة السلطات. يفقد أمام الأزمات حسنَ التصرف وسرعة البديهة». تهرّب، انزوى وانهار عند اعتقال نوارة بعد مشاركتها في وقفة احتجاجية على مشاركة العدو الاسرائيلي بمعرض صناعي في القاهرة في التسعينات. نتعرّف أيضاً على نجم الذي يكلّم الستارة والسّخان. تحاول الابنة تحليلَ أواصر قُربه من الإمام الحسين ومقامِه. تمرّ على علاقته بأمّه في طفولة حزينة حرَمتْه ميراثَ العائلة الكبير، وجاور عبد الحليم حافظ في الميتم. غالباً ما استرجع سنواته هذه بسخريته المعهودة وتلقائيّته الذكية.

وربّما تعمّدت نوّارة أن يكون أسلوبُها في السرد مشابهاً لتلقائية والدها وعفويّته. ابتغت رسالةً من ابنة لأبيها، للزمن ولنفسها مع تعابيرَ بالعامّية التي خلّدت نجم. في الصفحات الأولى، وصفتْه «أباً للجميع... مشاعاً». ورُويداً رويداً، دخلنا إلى أبيها هي ومساحتِهما الخاصّة المُشاغبة على مدار أربعين عاماً. ووصلنا إلى المشهد الأخير لـِ»البطل الدراميّ» الذي لعب وكتب حياتَه بسيناريو ثقيل ولافت. وانتهت قصتُه «بما يسمّونه في الدراما بالخروج العظيم»: بعد مشاركته في الأردن بندوة عن فلسطين بجراحها ونضالاتها، عاد إلى شقّته المصريّة. وقف على شرفتها وخاطب خالقَه بما كرّره في كل مقابلاته: «أنا بحبّك أوي وعارف إنك بتحبّني». في الصباح، سقط أرضاً ومات واقفاً. لم يتسنَّ له استلام جائزة الأمير كلاوس الهولندية بعد أيام. لم تستوعب الابنة حضوره الغائب. ولم تتأقلم مع غيابه الحاضر. فظلّت تكتب بخطّ يدها «بابا مات». وباليد نفسها، غسلت أباها ونفسها بالذكريات وتطهّرت بأوراقها. أحبَّتْه واعتذرَت منه.



هو قويّ بمواجهة السلطات... ويتهّرب من مواجهة المواقف الإنسانية



MISS 3