جون ألترمان

ما الذي تكشفه أزمة البحر الأحمر عن استراتيجية الصين في الشرق الأوسط؟

20 شباط 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

وزير الخارجية الصيني وانغ يي متوسّطاً نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي (يسار) ونائب وزير الخارجية الايراني للشؤون السياسية علي باقري كاني - بكين في 15 كانون الأول 2023

في شهر آذار الماضي، كان يصعب ألا يلحظ الجميع علامات الرضا على وجه وزير الخارجية الصيني وانغ يي. أبرم هذا الأخير حينها اتفاق سلام بين المملكة العربية السعودية وإيران، وقرّب المسافات بين نظيرَيه في البلدَين.



كانت سعادة وانغ مبررة، فقد حققت الصين ما اعتبره الكثيرون مستحيلاً، وهي الدولة الوحيدة التي كانت قادرة على تحقيق هذا الهدف، برأي البعض على الأقل. اعتُبِر البلدان بمصاف الأعداء سابقاً، لكن يثق كل واحد منهما بالصين. فيما كانت الولايات المتحدة تُركّز على أمن الشرق الأوسط، جاءت الصين لتضمن أمن المنطقة بطريقة عملية. كان نجاح وانغ غير المتوقع مؤشراً آخر إلى دور الصين المتوسّع في الشرق الأوسط.



لكن غاب هذا النوع من الديبلوماسية الصينية المتماسكة في آخر أربعة أشهر. فيما يغرق الشرق الأوسط في العنف راهناً، لم يظهر أي أثر للوساطة الصينية أو قوة الديبلوماسية الصينية، مع أن البلد يدعم الفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن، ويقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل منذ أكثر من عشر سنوات، ويستثمر عشرات مليارات الدولارات في إيران، والمملكة العربية السعودية، ومصر، وأماكن أخرى.



أكثر ما يلفت النظر هو عجز بكين عن التحرك أو عدم استعدادها لاتخاذ أي خطوة ديبلوماسية أو عسكرية أو اقتصادية لتحقيق مصالحها العامة ومصالح شركائها، رغم بدء اعتداءات الحوثيين ضد سفن الشحن في البحر الأحمر منذ ثلاثة أشهر وتأثيرها على التجارة الصينية وتضييق الخناق على شركاء الصين الإقليميين.



تهتم الصين بمنطقة الشرق الأوسط أصلاً بسبب غناها بمصادر الطاقة. بدأت الصين تستورد النفط منذ ثلاثين سنة، وهي مسؤولة عن نصف الطلب العالمي على النفط في معظم مراحل العقدَين الأخيرَين. على مر هذه الفترة، كان نصف النفط الذي تستورده الصين يأتي من الشرق الأوسط.



بالنسبة إلى الصين، لطالما كان الاتكال على الشرق الأوسط نقطة ضعف في سجلها. اعتُبِرت الولايات المتحدة اللاعبة الأمنية الطاغية في المنطقة طوال نصف قرن، ويخشى عدد كبير من الصينيين أن تحرم واشنطن بكين من إمدادات الطاقة الأساسية حين تزداد العدائية بين الولايات المتحدة والصين. كذلك، يشمل الشرق الأوسط ثلاث نقاط شحن أساسية بالنسبة إلى التجارة العالمية: مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس. يمر عدد كبير من الحاويات الصينية المتجهة إلى أفريقيا، أو أوروبا، أو حتى الساحل الشرقي للولايات المتحدة، بتلك المسارات الثلاثة. تحرص القوات البحرية الأميركية راهناً على حماية تلك النقاط، لكنها قادرة على إعاقتها أيضاً.



كانت استراتيجية الصين تقضي بالتعايش مع الولايات المتحدة بدل مواجهتها وإقناع دول المنطقة بتطوير علاقاتها مع بكين، تزامناً مع الحفاظ على روابطها مع واشنطن. منذ عشر سنوات تقريباً، أعلنت الصين عن إقامة «شراكات استراتيجية شاملة» مع الجزائر ومصر، ثم أضافت السعودية، وإيران، والإمارات العربية المتحدة، إلى هذه اللائحة. ولم تكن صدفة أن تضغط بكين على هذه البلدان الأربعة الأخيرة لإقناعها بالانضمام إلى مجموعة «بريكس» (تشمل البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا)، في شهر آب الماضي. أعلنت الصين أنها تريد بهذه الطريقة تعميق روابطها الاقتصادية في أنحاء الشرق الأوسط، ما يسمح في الوقت نفسه بتعزيز التجارة والنمو.



عند إبرام الاتفاق السعودي - الإيراني في آذار 2023، اعتبرت الصين هذه الخطوة تمهيداً «لإرساء السلام والاستقرار في الشرق الأوسط وتقديم نموذج إيجابي لحل المشكلات والخلافات بين الدول عن طريق الحوار والتشاور»، ثم تعهدت بأن «تتابع الصين دورها البنّاء».

لكن خلال الأشهر التي تلت تصاعد العنف في الشرق الأوسط، اتكلت الصين على البيانات العالمية التي تُعبّر عن القلق من تفاقم الوضع ولم تنشر أي تصريحات خاصة بها. كانت أوضح إدانة صينية تتعلق باستهداف المستشفى الأهلي في غزة، في تشرين الأول.



لم تستنكر الصين هجوم «حماس» على إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023 أو اعتداء الحوثيين على ممرات الشحن في البحر الأحمر. ولا يتطرق أي اقتراح ديبلوماسي صيني إلى عناصر الأزمات المتلاحقة والمتداخلة في المنطقة، باستثناء الإعلان عن رغبة عامة في تنظيم مؤتمر سلام. بالنسبة إلى الصين، بقيت أدوات الديبلوماسية (الزيارات الرفيعة المستوى، والحوافز، والعقوبات) خيارات متاحة لكن مُعلّقة.



قبل اجتماع كانون الثاني في تايلاند بين مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان ووانغ، حيث كان أمن البحر الأحمر جزءاً من جدول أعمالهما، أكد المسؤولون الصينيون والإيرانيون، تذمّر الصين من دعم الحكومة الإيرانية للحوثيين، لكن بلا جدوى. لم يتّضح بعد إذا كانت تلك التصريحات تهدف بكل بساطة إلى حماية وانغ من الضغوط الأميركية أو تعكس عجز الصين الحقيقي عن تغيير حسابات إيران.

في غضون ذلك، يتابع الديبلوماسيون من الغرب والشرق الأوسط التواصل في ما بينهم لمحاولة التوصل إلى طريقة تسمح بإنقاذ حياة الناس، وتخفيف الاضطرابات، وتحرير التجارة العالمية.

من الواضح أن أحداث المنطقة تسيء إلى المصالح الصينية مباشرةً. يأخذ الحوثيون مثلاً حوالى مئة مليون دولار سنوياً من إيران التي تحتل تجارتها مع الصين المرتبة الثالثة من مجموعها العالمي، مع أن حصّتها التجارية تساوي أقل من 1 في المئة من تجارة الصين.



يبدو أن الصين تهتم ببقية دول العالم أكثر من إيران. تذكر بعض المصادر أن 90 في المئة من سفن الحاويات التي تمرّ في العادة بجنوب البحر الأحمر غيّرت طريقها لتجنب المنطقة. في الظروف العادية، يمرّ حوالى ثلث الحاويات العالمية بطرقات البحر الأحمر. لكن بدأت الأزمة المستجدة في مجال الشحن تزيد أسعار الحاويات بثلاثة أو أربعة أضعاف، ما يعني أن تفضّل شحنات الطاقة المتّجهة إلى أوروبا الالتفاف حول أفريقيا وأن تصبح إعاقة سلاسل الإمدادات ممكنة بسبب تأخير تسليم البضائع.



الصين ليست مجرّد دولة تجارية، فهي دولة بحرية أيضاً. تؤثر الخلافات في التجارة العالمية إذاً على الصين مباشرةً، وتدفع المستثمرين إلى نقل سلاسل الإمدادات إلى دول أقرب وأكثر ودّاً لتجنب أي اضطرابات مستقبلية.

كذلك، تسيء الاضطرابات إلى الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط. صرفت الصين عشرات مليارات الدولارات على منشآت البحر الأحمر، ولا تقتصر هذه الكلفة على قاعدتها العسكرية في جيبوتي، بل تشمل أيضاً منشآت مرفئية، وسكك حديد، ومصانع، ومشاريع كثيرة أخرى في شرق أفريقيا، والسعودية، والسودان، وهي تموّلها جزئياً عبر «مبادرة الحزام والطريق» الشهيرة. لكن لا مفر من أن تصبح هذه المشاريع كلها مُهددة بسبب انهيار عمليات الشحن في البحر الأحمر.



في أنحاء الشرق الأوسط، يجازف عملاء إيران بإغراق المنطقة في الحرب، ويقضي جزء من خطتهم بمهاجمة إسرائيل التي عمدت بدورها إلى تطوير علاقاتها مع الصين تدريجاً منذ 20 سنة. استثمرت الصين حوالى 8 مليارات دولار في إسرائيل خلال السنوات العشر الماضية وبَنَت مشاريع بقيمة 3 مليارات دولار.

لا يتوقع الكثيرون أن تتمكن الصين من السيطرة على إيران وعملائها، لكن من اللافت ألا تأخذ بكين عناء المحاولة أصلاً. يبدو أن الصين تجد في الأزمة الراهنة فرصة تفيدها.



إتخذت الصين خطوتَين للتعامل مع هذه الأزمة. أولاً، انتقدت بكين الولايات المتحدة وحاولت بذلك أن تنشر العدائية في الجنوب العالمي تجاه الدور الأميركي في الشرق الـوسط. تذكر مقالة في صحيفة «تشاينا ديلي» في تشرين الأول الماضي، أن الولايات المتحدة «تقف على الجانب الخاطئ من التاريخ» في غزة، و»يُفترض أن تتحمّل مسؤوليتها العالمية، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، عبر تجنب نشوء أزمة إنسانية أكثر خطورة في قطاع غزة». تابعت وسائل الإعلام الصينية مهاجمة الجهود الديبلوماسية الأميركية بطرقٍ تؤجّج المشاعر المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل في دول الجنوب العالمي، فاعتبرت (صراحةً أو ضمناً) أن الانحياز الأميركي لإسرائيل يمنع إقرار حل الدولتين القادر على معالجة الصراع الكامن بطريقة جذرية.



أما الخطوة الثانية التي تتخذها الصين راهناً، فهي تتعلق بتحقيق مصالحها الاقتصادية على المدى القريب. بدأ الطلب يرتفع على السفن الصينية لأن شركات الشحن تفترض أن الحوثيين لن يهاجموها. حتى أن بعض السفن التي تبحر عبر البحر الأحمر تعلن أنها تشمل «طاقماً صينياً بالكامل» عبر أجهزة تعقب السفن لتجنب الاعتداءات.

تثبت الصين في الشرق الأوسط أن مقاربتها الديبلوماسية تجد صعوبة في التكيّف مع الظروف المتبدلة، وهي تتجنب بكل وضوح اتخاذ خطوات صعبة خدمةً للمصلحة العامة. يفضّل المسؤولون الصينيون الابتعاد عن الأنظار والبحث عن طرق هامشية لتحقيق مصالحهم الخاصة، ولو على حساب شركائهم وحلفائهم.



لا تعكس هذه المقاربة منطق «الفوز لجميع الأفرقاء» الذي تجاهر به بكين. يبدو أن الصينيين يقفون اليوم على هامش الأحداث ويشاهدون خسارة جميع الأطراف، بما في ذلك الصين.

MISS 3