جيمي الزاخم

مدينةٌ من عيونٍ وحكايا

Beirut Sonder Stories ومصطفى غبريس يدخلان شوارعنا الخلفيّة

24 شباط 2024

02 : 05

كاميرتُه تصطاد الوجوه وأبطالَها

على خطوط طول مواقع التواصل الاجتماعيّ، آلافٌ من صفحات وحسابات لبنانية تتوزّع على مناطق بمحتويات حارّة، معتدلةٍ أو باردة. تتقاطعُ مع دوائر عرض الجماهيريّة، التجييش والتسطيح، أو التثقيف أوالتَرْويح. مضامين بأهداف إمّا تولد من فراغ وتترعرع معه. وإمّا تستوقفُك، تُغنيك لثوانٍ عن أغنيتك المفضّلة، أو عن دردشة مع صديقك. تُصافحُها. تدخل غرفَها المُنعشة. اليوم، نتعرّف علىBeirut Sonder Stories الإنستغرامية. أطلقها الشّاب مصطفى غبريس منذ أشهر قليلة. صوتٌ وصورة عن شمس حكايا تُشرق من وجوه أصحابها. وتغرُب في غرفهم الضيّقة المبنيّة من أحلامهم وذكرياتهم الواسعة.



بين هذه الحُجرات، تتنقّل كاميرا مصطفى مع غمّازات تتبسّم لأبطالٍ قابعين في شوارعهم الخلفية. يعيشون كواليسَهم الخفيّة في الدكاكين والأزقّة، مع الصّنارات والمسامير وماكينة الخياطة. أناس غرباء. ليسوا من سلالة الضوء. لا ينتمون إلى سجلّ البريق أو الوعظ. قصّتهم إبرةٌ وحياتهم عِبْرَة. يُضيئون طريقَهم على طريقتهم. يحملون عمرَهم على وجوههم. ويقدّمون قلبَهم على كفّ لسانهم. صفحاتُهم تكتب جزءاً من مجتمع وذاكرة. يروون قصصَهم لمصطفى الذي يروي لـ»نداء الوطن» قصّتَه معهم ومع الكاميرا.

شابّ يقترب من أعوامه الثلاثين. يُحصي أعواماً وأحلاماً يَفَعَتْ في بيئة بعيدة عن أجواء الصورة وصناعة الفنّ الذي يتحوّل إلى جنّ يطارد الممسوسَ به. دخل مصطفى التلميذ المتفوّق- وبنصيحة عائليّة- كليةَ الطب في الجامعة اللّبنانية. غير أنّ الجنَّ الفنيّ انتشلَه من البئر العلميّ. منذ السنة الأولى، أدرك غبريس أنّ شغفه أقوى من تصنيفات وظيفيّة واجتماعيّة. لم يتقدّمْ لإجراء امتحاناته. اعتذر عن خيانته. وعاد إلى حبّه الأول. تخرّج من قسم التلفزيون والسينما في الجامعة اللبنانية الدولية. وخلال هذه المرحلة وقبلها وبعدها، أنجز إعلانات، أفلاماً قصيرة ومنها Stillness الذي شارك في مهرجانات دولية. مدّ صورته على بساطِ الواقع والمُمكن. تعاون مع مؤسّسات إعلامية. ومع برنامج الأغذية العالمية للأمم المتحدة، يعمل»بدوام جزئي يُتيح وقتاً أكبر للصفحة».




الصفحة حديثةُ العهد والجُهد



بعد انغماسه وإعجابه بكتاب جون كوينغ Dictionnary of obscure Sorrows (قاموس المشاعر أو الأحزان الغامضة)، استدلّ مصطفى على مصطلح sonder الذي توسّط عنوان صفحته عن بيروت وحكاياها: نحن مُحاطون بأبطال «يلعبون دورَ البطولة» في حياة قد تكون هامشيّة أو غير معقَّدة. لكلّ منا أحلامه وحروبه الصغيرة أو الكبيرة. نخوضُها لنحافظ على قيمتها ولو كانت نُحاسيّة. لكنّها في منظار عيوننا، تُساوي سبائكَ ذهبية. على رصيف كورنيش المنارة، حصلت أوّل ملامسة مع هذه السّبائك. المكانُ يزدحم بشتّى أنواع الناس بتنوّعاتهم وتفاوتهم. رصَدهم مصطفى وتأمّلهم. منذ نعومة سنواته، يمتهن المراقبة و»أستمعُ أكثرَ ممّا أتكلّم». وجوهٌ- «بملامح ونظرات كأنّها هاربة من شاشة السينما»- كهْرَبَت مصطفى الخجول. وشحنَته بقوّةٍ تدفعه نحو هؤلاء الغرباء. يزورون البحر. يشكون إليه. هو شفيعهم السرّي. «يحفظ سرّهم ولا يحاكمُهم». يرمون في أمواجه أسماكاً اصطادَها عمرُهم وخنقَهُم حسكُها. «هنا الناس تبكي، تُفضفض وترتاح». تسرح في المدى الواسع وتُبحر في دواخلها الهشّة، فتتحطّم الحواجز والحصون. وتتسلّل رغبةُ الإفصاح. «تشعر أنّهم بحاجة يحكوا مع غريب يفلّ وما يرجع». وعلى البحر ومعه، انطلقت عدسةُ مصطفى إلى حكايتها في شوارع بيروت وأزقّة ضواحيها مع ألسنةِ سكّان يسكنونها أو يقطنون بعيداً منها. لا تسكت شهرزاد عن الكلام المُباح مع وجوه تركها تاريخُ البلد وأوضاعه- بشكل مباشر أو غير مباشر- مع تجاعيد أو حوافزَ.

هنا حبٌّ متروك على قارعة نصف قرن. هنا موهبةُ سينتيا كرم ترسم بسمةَ المرضى. فيديوات وأحلام بسيطة قيد التنفيذ أو قيد الذاكرة. تحدٍّ وأرواح معذَّبة. مواهب وأمراض وأعمار تسدّ جوعَ الغد بخبز الجهد والقناعة. تجاربُهم لا تهبّ مع عواصف. لا يزرعون رياحاً ليحصدوا أعاصيرَ. إنّها نسمات بأبعاد ورسائل تلفح الكاميرا. «حتى لو في ناس ما عندن قدرة على التعبير، ولكنّهم يصنعون فرقاً بملامحهم، عباراتِهم البسيطة ونبرةِ صوتهم». فتخرج اللّقطات عفويّةً حقيقية. «لا أعدّل جُملَهم. ولا نتّفق مسبَقاً على خطّة أسئلة وأجوبة». يدخلون إلى حكايتهم ويخرجون إلى مصطفى. يسير خلفهم. يلتقط عيونَهم ويُترجم نظرات تتطلّع باتجاه أنياب زمنٍ التهَمَها أو سَحَقتْهُ. بعد كلّ تصوير، يعود مصطفى حاملاً كاميرتَه بيد، والقصةَ وانفعالاتِه باليد الأخرى. بعيونه وكاميرته، بحركتِها ولقطاتها، ينقلُنا نحو الباطن مع موسيقى وكادرات وإضاءة طبيعيّة. تصبغُها الألوان بهويّات وروائح تفوح كما لو أنها تدعوك إلى فنجان زهورات دافئة.



البحرُ شفيعُهم السرّيّ



هذه الألوان، اللّقطات، الوجوه والنغمات طبعتْ هُويةً للصفحة. وبعدما لاقت رواجاً وتفاعلاً في مدّة قصيرة، قرّر غَبريس تخصيصَ وقت أكثر لترسيخها مع مضمونها الغنيّ ببساطته وحقيقتِه. يُريدها «قريبةً من المتابعين». لهذا، وبعد انتشار فيديواته، رفض عروضاً من مؤسسات لتصوير محتوى مدفوع يُعرَض على الصفحة. «لا أريد تحويلها إلى واجهة تجارية استثمارية». إنّها مساحةٌ للموهبة والاسم. وبدأت تُصدّرهُما نحو فضاء فرصٍ أوسع. لا يرغب استنساخَ تجارب تلهث وراء الصوت المزعج والضوء الأعمى. يحمل أحلامه مع الصورة والأفلام الروائية. يُريدها أن تُزهرَ في أرضها الأمّ. «بعيداً عن الطوباويّات والكليشيهات، ومع كلّ الصعوبات، إنّ كلّ شابّ قادر يعمل فرق» في وطن عاد إليه مصطفى بعدما أمضى قسماً من حياته الأولى في المملكة العربيّة السعودية. تَعزَّزَ انتماؤه إلى هذه الأرض. يُمسك بيدها ويقترب أكثر من نبضها مع هذه الجولات «وتناقضاتها وتنوّعاتها». على طريقته، يُخرج من عروقها لسانَ مدينة تُريد أن تُثرثِر وتُزهزق. لكنّ بيروت نسيَت الكلام. في رواية عبّاس بيضون «الحائط الخامس» يقول أنطوان إنّ بيروت باتت «ضاحيةً لمدينة لم تعُدْ موجودة... مدينة خرساء وصامتة... تَضيق باستمرار». تضيق بأبنيتِها وحكاياتها المزدحمة. «لا تجد وقتاً للكلام» إلّا مع نفسها. ربّما تتشارك مع سكّانها الفضفضةَ للبحر. لا نعرف ماذا أسرّتْ إليه. ربّما تُخبره أنّها تتكتّم عن بوادر إصابتها بألزهايمر بعد تصدّع جهازِها الوطنيّ العصبيّ. ربّما تحاول الانتحار. لكنّها تتراجع وتلملم شظايا مرآتها من حكايا ناسها.

MISS 3