حسان الزين

من غرنيكا وحنظلة إلى إيلان السوري وأوكرانيا وغزة

"أطفال تحت القصف" من الرسم إلى الواقع

2 آذار 2024

02 : 04

غرنيكا بيكاسو لوحة الحرب في كل مكان

قبل الصورة كان الرسم. وفي لحظة ما، رسم بيكاسو جدارية تحمل اسم بلدة في وطنه إسبانيا، غرنيكا، إلا أنّها تصوّر الحروب كلّها. ولم تؤثّر تلك اللوحة في الثقافة والفنون فحسب، بل كأنّها أسّست لتصوير الحروب والمجازر الذي يتسيّد الميديا في عصرنا.



في العام 1937، كلّفت الحكومة الإسبانية مواطنها بيكاسو لرسم لوحة تزين بها جناح بلدها في معرض باريس. أحبّ بيكاسو أن يكون عمله بعيداً من السياسة. لكنّ هذه طاردته إلى محترفه. لقد استعان قائد الانقلاب على الحكومة الإسبانية، الجنرال فرنكو، بحليفيه هتلر وموسوليني لإعانته في القضاء على السلطة الجمهورية. وقصفت الطائرات الألمانية بلدة غرنيكا التي كان معظم سكّانها من النساء والأطفال وكبار السن، إذ كان الشباب والرجال في جبهات القتال ضد الانقلاب. استمر القصف الذي أراد منه مرتكبوه «تأديب» المعارضين والخصوم لثلاث ساعات. وإذ دمّر أجزاء واسعة من البلدة، حاصر المواطنين والمواطنات الذين لم يجدوا مفرّاً. وانتشرت أخبار المذبحة وصور آثارها.

عندها، قرر بيكاسو رسم غرنيكا. رسم ما لم تلتقطه الكاميرات. وهذا ليس القتل والتدمير في لحظة ارتكاب الجريمة فحسب، إنما هو تاريخ إسبانيا ورموزها، والإنسان... والجمال والبراءة. ضمّن لوحتَه ثوراً وحصاناً وأربعَ نساءٍ، وطفلاً واحداً، ورجلاً واحداً. وهؤلاء كلّهم لا يمثّلون، في غرنيكا، الألم في اللحظة التراجيدية تلك فحسب، بل هم يقاومون القتل. وفي سكونهم، يتحرّكون مؤكّدين الحياة واستمرارها. ولعل الطفل وحده من يخرج عن هذه الروح. فهو، في غرنيكا، ميّت في حضن أمه. ولهذا معانٍ كثيرة ليس في قاموس اللوحة فحسب، إنما في قاموس الحروب وتاريخ البشرية: الطفولة والبراءة تقتلهما الحروب، لكن صورتهما، ميّتين أو صامتين، تبقى.

وقبل أن تجول تلك اللوحة عواصم عديدة وتُوضع إحدى نسخِها في أروقة الأمم المتّحدة في نيويورك، كانت في محترف بيكاسو الباريسي عندما احتل جيش هتلر فرنسا. ودخل جنود المحتل المساحة الخاصّة بالفنّان. ورأى أحدهم غرنيكا فسأل بيكاسو: «أنت من رسمها؟». ورد الفنّان: «كلا، أنت!».



حنظلة ناجي العلي



حنظلة أمام غرنيكا

ناجي العلي، الذي اقتلعه الاحتلال الإسرائيلي من قريته الشجرة في 1948، لم يرسم غرنيكا فلسطين. في كل رسم من أعماله الكثيرة، وهي بالآلاف، غرنيكا. وهي مجموعةً تؤلّف جدارية فلسطين وتغريبتها. وبطله حنظلة يناظر أبطال بيكاسو. وحنظلة الذي لا يغادر لوحات العلي طفلٌ مشرّدٌ يداه خلف ظهره مثل رجل شيخ منهك بالهموم وتائه. وفي اختيار العلي الطفل يؤكد استمرار الشعب الفلسطيني ومقاومته. لهذا، هو حنظلة - الطفل - مشرّد تارة وجريح من القصف طوراً، وفدائي حيناً وساخر سياسي أحياناً. وهو طفل دائم، لكنه شعب أيضاً.

الآن هنا، فلنتخيّل حنظلة أمام غرنيكا، أو ينضم إلى أبطالها. وهو المشهد نفسه: حنظلة أمام غزّة أو فيها.

الصحافي ودفق الصور

اليوم، وعلى الرغم من أن الصحافي، سواء أكان محرِّراً أم مصوّراً أو في أي موقع وظيفي، ليس رسّاماً، إلا أنه في موقع بيكاسو وناجي العلي. وربما يكون في موقف ذاك الجندي أمام غرنيكا، إذا ما افترضنا أنه وقع فريسة تناقضات درامية بين قسوة الحرب وبشاعتها وبين التزامه بقوانين مؤسسته.

وهذا الموقف المركّب المعقّد للصحافي ولمؤسّسات الإعلام ليس عاديّاً.

ثمة دفق من الصور. الكاميرات تعمل على مدار الساعة. كاميرات الناس، والكاميرات المرافقة للجنود والمقاتلين والآلات العسكرية. صورٌ من الأرض، وأخرى من السماء. صورٌ من المستهدَف، وأخرى من المسهتدِف. باختصار، وكلنا يعلم ذلك، باتت الصورة سلاحاً.

إزاء ذلك، تفترض مهنة الإعلام، أو هكذا تدّعي، التعامل بموضوعية. وفيما يفترض هذا الشعار إبعادَ الموقف السياسي للمؤسّسة أو للصحافي، وعدم الانجرار وراء المشاعر، بات لا يمكن إخفاء تجاوز الكثير (كي لا نعمم) من وسائل الإعلام والصحافيين والصحافيّات المعايير المهنية، لا سيما عدم الانحياز لفريق دون آخر. وفيما يتكثّف ذلك في الحروب والانقسامات السياسية، لا سيما الدولية منها، ما زال البعدُ الإنساني المتعلّق بالأطفال والنساء والفئات الضعيفة، من أكثر «القصص» التي تُدار سياسياً. و»المادة» الرئيسية في هذه القصص هي الصورة. فالإنسانية ما زالت الوتر السياسي الأكثر استخداماً في الإعلام، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. هكذا، كانت صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرّة، الذي قتله الجيش الإسرائيلي أثناء اختبائه خلف والده في انتفاضة العام 2000. لقد شكّلت ضغطاً كبيراً على تل أبيب أيام كانت مساحة القضية الفلسطينية أوسع في الإعلام الغربي. وهكذا كانت صورة الطفل السوري إيلان جثة على الشاطئ، بعد انقلاب الزورق الذي كانت تهاجر فيه أسرته بطريقة غير شرعية نحو أوروبا. وفي حين شكّلت صورة إيلان إدانة للمتحاربين في بلاده، وفي مقدّمهم النظام، أحرجت دولاً أوروبية اندفع بعضها إلى تغيير سياسته إيجاباً تجاه اللاجئين.

إنحياز


ففي السنوات الأخيرة، حصل تغيّرٌ كبير وسيبقى مؤثّراً في الإعلام. عالمياً، بدأ منذ 11 أيلول 2001 انحياز ضد العرب والمسلمين وتقلص الاهتمام بالقضية الفلسطينية. عربيّاً، يمكن اعتماد الربيع العربي محطة تحوّل. ولم ينقسم مذ ذاك الإعلام فحسب، بل انتقل بعضه من تغطية الحدث إلى صناعة الحدث. لبنانيّاً، حلّ منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في 2005، انقسام بين فريقي النزاع، 8 و14 آذار، وتقدّمت الوسائل الحزبية والمنحازة بوضوح.

وبعدما مرّ ذلك مع نقد محدود، كان سهلاً على كثير من وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية والعربية، لا أن تتماهى مع سياسات حكوماتها إزاء الحرب الروسية - الأوكرانية فحسب، بل أن توسّع هامش التعبير الشخصي لصحافييها ما دام ذلك متوافقاً مع سياستها: مع أوكرانيا ضد روسيا. وفي هذه الأثناء، تركزت الكاميرات على القصص الإنسانية الأوكرانية، فيما غاب الصوت والمشهد الروسيان.

 انقسام من اللحظة الأولى


في ظل هذا، جاء "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزّة. من اللحظة الأولى، انقسم الإعلام. وقليلةٌ هي الوسائل التي نأت بنفسها أو حافظت على معايير مهنية. لقد تماهى معظم الإعلام مع السياسة. فريق تبنّى "السردية الإسرائيلية"، وفريق أقل مع "القضية الفلسطينية".



والصورة سلاح. لم تعاقب وسائل إعلام عالمية عاملين عرباً لديها عبّروا على السوشيال ميديا عن مشاعِرِهم الشخصية فحسب، بل جرى بسرعة ومن دون فحص وتحرٍّ بث صور مفبركة لطفل ادُّعي أن مقاتلي القسام أحرقوه. وحيث لا وجود لصور، بُثّت أقوالُ أشخاص تُحاكي الصورَ في مضمونها، إذ روى أولئك مشاهد "ارتكبها الإرهابيّون بحق الأطفال والنساء والمدنيين عموماً". وكذلك، روى صحافيون وصحافيات على الهواء مباشرة "مشاهد" لم يروها.



في المقابل، اهتمت وسائل إعلام، عربية خصوصاً، بـ"طوفان الأقصى". وهي نفسُها أخذت على عاتقها دحضَ ما ينشره الإعلامُ المضادُ وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. من مثل الفيديوات والصور التي "تكشف الفبركة"، وتقدّم صورة إيجابية للمقاتل الفلسطيني وتركز على النتائج المأسوية والتدميرية للعدوان الإسرائيلي على غزة.



في خلسة من هذا، وأثناء حرب غزة، رسم الفنانُ المجهول، بانكسي، ثلاث طائرات حربية على شارة سير STOP في أحد شوارع لندن. وبعد ساعاتٍ سُرقت اللوحة الثمينة. كان هذا الخبر. أما ما وراءه فيقول إن وسائل الإعلام التي نشرت صورة لوحة بانكسي كانت المؤيدة لوقف الحرب، فيما وجدت المؤيدة للحرب صوراً أخرى تناسبها.



مساهمة ألقيت في ملتقى «أطفال تحت القصف» الذي نظمته جامعة بيروت العربية.

MISS 3