حسان الزين

من انقلاب "القومي" إلى الحلف الثلاثي ومحاولة الصدر والحركة الوطنية و"الاستقلال الثاني" و"١٧ تشرين"

المعارضات في لبنان: القوى السياسية على أرض الوجودين الفلسطيني والسوري (2)

16 آذار 2024

02 : 04

تناولت الحلقة الأولى عن المعارضات في لبنان الثنائية الحزبية التي مثلها اميل إده وبشارة الخوري في مرحلة الانتداب؛ والحركة الاستقلالية التي قادها الخوري ورياض الصلح وقامت على الميثاق الوطني؛ وانقلاب الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتهى بإعدام زعيمه أنطون سعادة؛ والثورة البيضاء ضد عهد الرئيس الخوري وقادها كمال جنبلاط وكميل شمعون وأفضت بعد استقالة الخوري إلى انتخاب شمعون رئيساً؛ وصولاً إلى ثورة 1958 ضد انحياز شمعون إلى السياسة الأميركية والتي قادها جنبلاط وصائب سلام ورشيد كرامي ومعروف سعد. وهنا، الحلقة الثانية عن الانقلاب الثاني للحزب السوري القومي الاجتماعي، والحلف الثلاثي ضد الشهابية (1968)، وحراك السيد موسى الصدر، والحركة الوطنية اللبنانية وتحالف قوى 14 آذار... وتيار الاحتجاج والاعتراض.



واجه الرئيس فؤاد شهاب منذ الأيام الأولى لعهده حركة معارضة كادت تتحوّل إلى ثورة مضادة. ففيما دعا اللبنانيين إلى العودة للوحدة الوطنية، احتجّ موالو العهد السابق على الحكومة الجديدة برئاسة رشيد كرامي وضمت وزراء محايدين. فقد اعتبروا أنها ترجح كفة الثورة، وتأكد لهم ذلك حين أعلن كرامي العزم على «قطف ثمار الثورة». وقد رفع منسوب التوتر مقتل الأديب والصحافي الكتائبي فؤاد حداد (أبو الحن) في بيروت الغربية. فدعا حزبه إلى إضراب عام ذكّر بسيناريو حرب الأشهر الماضية وبهشاشة الاستقرار الأمني والتوافق السياسي.


الرئيس فؤاد شهاب


إزاء ذلك، تراجع شهاب، مؤسس الجيش اللبناني وسليل الأسرة التي حكمت إمارة جبل لبنان، خطوة إلى الوراء. شرع بالتنسيق مع المعارضتين القديمة والجديدة بتشكيل حكومة ثانية. واختِير أن تضم الجميع وتكون مصغّرة. فتألفت من كرامي رئيساً، بيار الجميل رئيس «الكتائب»، وحسين العويني وريمون إده عميد «الكتلة الوطنية». وسارعت الحكومة الجديدة إلى إطلاق شعار «لا غالب ولا مغلوب» لإنهاء الأزمة. واستجاب لذلك كمال جنبلاط الذي كان يؤكد أن الثورة انتصرت عسكرياً ساعياً إلى ترجمة ذلك سياسياً.

في ظل هذه الأجواء، حاول شهاب الإفادة من التوافق الأميركي - المصري عليه، ومن الانفراج النسبي في العلاقات العربية - العربية، ليصوغ ويضع قيد التنفيذ ما بات يُعرف بـ»الشهابية» أو النهج الشهابي». وهذه أو ذاك وفق فؤاد بطرس «تعني تثبيت الدولة على أساس أنّها المرجع السياسي... وليست الغاية تهديم الزعامات إنما أن تصبح الدولة هي المرجع وليس الزعامات، وأن يكونوا هم في خدمة الدولة وليست الدولة في خدمتهم. ثم إنشاء إدارة وأجهزة على أسس سليمة بشكل يستطيع به الحكم أن يستعمل آليات تمكّنه من الوصول إلى نتيجة باعتبار أن الإدارة كانت إلى حد بعيد ما زالت على النمط الذي كان سائداً أيام العثمانيين. حاول فؤاد شهاب أن يحدّث الإدارة وأن يوجد أجهزة تراقب بعضها بشكل يضبط التجاوزات».

وبعد سنتين من تركيز شهاب على إعادة الوحدة الوطنية، وسنة على تكليف مؤسسة إيرفد الفرنسية إجراء دراسة شاملة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وإعداد برنامج عمل في ضوئها، افتتح في خطابه عشية عيد الاستقلال، 1960، مرحلة جديدة. دعا، وفق فواز طرابلسي، إلى «الإصلاح الاجتماعي الشامل وبناء المجتمع الجديد».

لكنّ، ثمة حدثاً إقليميّاً طرأ وسيؤثر في توجهات العهد: انهيار الوحدة المصرية - السورية (أيلول 1961). ويرى البعض أن ابتعاد مصر عن الحدود اللبنانية شجّع الخصوم الإقليميين والمحليين للقاهرة على التحرّك لجذب لبنان إلى محورهم. ففي ليلة 31 كانون الأول 1961، عرف لبنان، وفق طرابلسي، «أول محاولة انقلاب عسكري في تاريخه كدولة مستقلة عندما أقدمت وحدات من الجيش بقيادة ضباط من الحزب السوري القومي الاجتماعي، مدعومة بميليشيا الحزب، على احتلال وزارة الدفاع ومساكن الضباط وخطف عدد من كبار ضباط الجيش». ويلفت طرابلسي إلى «شبهات كثيرة تحوم على أن انقلاب الحزب القومي، المعروف بعدائه للناصرية والشيوعية، حصل بتشجيع، بل حتى بتمويل، من السلطات البريطانية والأردنية الراغبة في تشكيل اتحاد للدول المعادية لعبد الناصر يضم سوريا والأردن ولبنان والعراق».

ووفّر الانقلاب، وفق طرابلسي، «للأجهزة الأمنية الشهابية فرصة ذهبية كي تزيد من تدخّلها في السياسة اللبنانية».

وقد تميّز المشروع الشهابي، وفق طرابلسي، بثلاث مميّزات مترابطة: «العمل على تزويد البلد بطاقم بديل من الزعامات التقليدية، باستيعاب الأفرقاء المتقاتلين في أحداث 1958؛ واستخدام الجيش والأجهزة الأمنية والتكنوقراط قاعدة للحكم؛ ونَقل مركز السلطة من الجهاز التشريعي إلى الجهاز التنفيذي. صدر قانون انتخاب جديد أعاد تبنّي الدائرة الصغرى لكنه زاد عدد النواب، فضرب شهاب بذلك عصفورين بحجر واحد: ساعد على عودة الوجهاء الذين أقصاهم شمعون عن المجلس في انتخابات 1957 من جهة، لكنه شجّع، من جهة أخرى، على صعود وجهاء جدد تدعمهم الأجهزة الأمنية».

ويلاحظ الصليبي أن «شهاب حرص على ممارسة سلطاته حسب الدستور. وعندما سعى بعض أنصاره، في 1964، إلى تعديل الدستور ليحق له ترشيح نفسه للرئاسة مرّة ثانية، أعلن هو رفضه للفكرة. وبذلك أصبح خلفه، الرئيس شارل حلو، أول رئيس للجمهورية، منذ 1926، يجري انتخابه وفق أحكام الدستور، وفي ظروف عادية يسودها الأمن والنظام».



الحلف الثلاثي بين الجميّل وشمعون وإده للقضاء على الشهابية



حلف انتخابي وبذرة حرب 1975

تزامن عهد حلو، وفق طرابلسي، مع احتدام الحرب الباردة بين عبد الناصر وخصومه المحافظين الموالين للغرب؛ ومع «مسألة تحويل إسرائيل مياه نهر الأردن والجهود العربية لمجابهتها». وهكذا، «وجد لبنان نفسخه في مواجهة التزاماته تجاه النزاع العربي - الإسرائيلي، ما سيعرّض سياسته التقليدية، المتكئة على مبدأ قوة لبنان في ضعفه، لامتحان خطير خلال السنوات التالية».

وفي مقابل «سعي حلو إلى تطمين الأوليغارشية المناهضة لأي تدخل للدولة في شؤون الاقتصاد...، اندلعت سلسلة من الإضرابات والحركات المطلبية طوال الفترة الممتدّة بين مطلع عهد حلو وحرب حزيران 1967»، وفق طرابلسي. وخلال هذه الفترة، في 14 تشرين الأول 1966، «أعلن توقف بنك إنترا عن الدفع، ما أغرق الاقتصاد في واحدة من أخطر أزماته منذ الاستقلال».

وسط هذا، وفيما برز مفهوما اليمين واليسار، ما يدل، وفق كريم بقرادوني، «على أن الصراع السياسي بدأ يتخطّى الانقسام الطائفي ويتّجه إلى انقسام جديد طابعه سياسي وإيديولوجي»، تقدّم المشهد الصراعُ بين «الحلف الثلاثي» (1968) الذي ضم كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده وبين الشهابيين وأصدقائهم.

ويصف فريد الخازن الحلف الثلاثي بالكتلة الانتخابية، معتبراً أنه «جاء تعبيراً عن ثبات القوى المسيحية في وجه الراديكالية المتصاعدة التي ولّدتها الحرب العربية - الإسرائيلية في 1967». ويضيف: «هذا الائتلاف لم يعش طويلاً، فقد هدف الطامحون الثلاثة إلى الرئاسة إلى هزم التيار السياسي الشهابي والفوز بأكثرية نيابية في مجلس نواب 1968 الذي عليه انتخاب رئيس الجمهورية في 1970».

أما فؤاد بطرس فيعتبر أنه «شئنا أم أبينا كانت فيه (الحلف الثلاثي) بذرة حوادث سنة 1975... حلف 1968 كان الجد البعيد لحوادث 1975... كانت الغاية منه أن يقضي على كل شيء شهابي وأن نرجع إلى الوراء 10 أو 12 سنة».

تزامن ذلك، وفق بقرادوني، مع عودة «المسألة الطائفية العامل الأساسي في السياسة وليس القضية الاجتماعية. وما زاد الأمور تعقيداً انتقال الكفاح المسلح الفلسطيني إلى لبنان وتنظيم اتفاق القاهرة عام 1969». ويضيف: «أنا لا أدافع عن شارل حلو، لكنني أظن أن اتفاقية القاهرة كانت ترجمة لعقدة الذنب الإسلامية ولتصاعد نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، وقد تفادى حلو اندلاع حرب أهلية لبنانية فأجّلها من عام 1969 إلى 1975 عن طريق التوقيع على اتفاقية القاهرة».

ويلفت الخازن إلى أن اتفاق القاهرة «استجاب لمطالب القيادات السنية السياسية والدينية». فيما «تأرجح الموقف المسيحي العام بين الدعم الحذر والمتردد وبين المعارضة الشديدة».

ويروي بقرادوني: وصلت الموجة الشعبية المسيحية المعارضة للشهابية والمؤيّدة للحلف الثلاثي إلى درجة حملت بيار الجميل على أن ينتخب سليمان فرنجية دونما قناعة ليحافظ على قاعدته المسيحية».

ويقول كريم مروة إن جنبلاط «كان يريد تأييد سركيس لكن هذا الأخير لم يسهل له المهمة، إذ كان مصراً على انتهاج القمع كسياسة. وفي اجتماع الأحزاب ناقشنا موضوع الانتخابات. وكان الرأي السائد بأنه ليس مفيداً الإتيان برئيس قوي مثل سركيس في الظروف التي كانت تمر فيها البلاد. كانت مشكلة المكتب الثاني مشكلة كبيرة جداً. وكان يجب التصدي لإمكانية استمرار ممارسته مع سركيس. وكان هم الحركة الوطنية الدفاع عن الفلسطينيين».



حاول الصدر بناء قوة ثالثة بين الزعامة التقليدية وأحزاب اليسار



تحوّل الشيعة مؤسسة طائفية

بعد سنة من وصول شهاب إلى الرئاسة، جاء السيد موسى الصدر من إيران إلى لبنان. أقام في صور خلفاً لقريبه الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين. هناك، في تلك المدينة الريفية التي لم يكن وصل إليها من الإنماء والخدمات ما يُذكر، بدأ عمله الاجتماعي معايناً واقع البؤس والحرمان وغياب الدولة.

ويرى طرابلسي أن الصدر الذي دعا إلى إسلام منفتح ومتنوّر، حاول بناء قوة ثالثة بين زعامة الأسعد التقليدية في الجنوب وبين أحزاب اليسار المتمثّلة في الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث، التي كانت تتمتع بشعبية واسعة في أوساط الجمهور الجنوبي».

يتابع: «أثار الصدر اهتمام الرئيس شارل حلو والأجهزة الشهابية وميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية، مصنع الأفكار اللبنانوية في صيغتها المارونية. وهؤلاء جميعاً يبحثون عن حليف مسلم ضد الزعامة السنيّة والشارع السنّي وقد انحازا أكثر مما يحتمل- برأيهم- إلى عبد الناصر والفدائيين الفلسطينيين. وبمبادرة من الصدر، استكمل الشيعة تحوّلهم إلى مؤسسة طائفية: اعتُرف بحق ممثلي الطائفة الشيعية في العمل وفاقاً للفتاوى الصادرة من مرجعية الطائفة في العالم ومُنح المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حق الدفاع عن حقوق الطائفة وتحسين أحوالها الاجتماعية والاقتصادية».

ولم يجد الصدر، وفق طرابلسي، «أي تناقض بين الوجود الفلسطيني المسلّح وبين السيادة اللبنانية، معتبراً أن لبنان ليس مسؤولاً عن حماية حدود إسرائيل... وقد لعبت حركة فتح دوراً هاماً في دعم الإمام وفي تأسيس حركة المحرومين عام 1974 وتدريب عناصرها وتسليحهم».

وفيما توترت علاقة الصدر مع «الكتائب» عقب تهجير السكان الشيعة من النبعة (1976)، لم يشارك، وفق فؤاد عجمي، «الحماسة الثورية لليسار اللبناني والفلسطينيين الذين اعتقدوا أنه يمكن إطاحة النظام وتحويل لبنان إلى جمهورية علمانية». وينقل عجمي عن بقرادوني أن الصدر أسرّ له قبيل اختفائه (1978): «منظمة التحرير سلطة فوضوية في الجنوب... لقد طفح الكيل».

ويعتقد بقرادوني أن «محاولة الإمام الصدر كانت آخر محاولة لإنقاذ صيغة 43 عن طريق تعديلها وإصلاحها».

وإذ استمرت حركة «أمل» التي أسسها الصدر، وشاركت بقيادة نبيه بري في الحرب ثم في نظام ما بعدها، شاركها منذ 1982 «حزب الله» المساحة التي رسمها «الإمام المغيّب»، إنما بعقيدة إسلامية ثورية خمينية. ولم تعد تلك المساحة، التي تحولت ثنائية حزبية، معارضة إنما صارت على رأس النظام والحكم.



الإنجاز الأهم للحركة الوطنية كان إعلان البرنامج المرحلي لإصلاح النظام السياسي



اليسار «الواعد»: حرب وخطآن

في ظل الانقسام حول الوجود الفلسطيني المسلح، وفيما «كانت قطاعات الشعب اللبناني تتحرك لوضع النظام القائم موضع تساؤل ومقاومة الأزمة ومجابهة سياسات الأوليغارشية التجارية - المالية»، وفق طرابلسي، بدأت خريطة القوى السياسية تتجه نحو الفرز والحدة. تشكّلت الحركة الوطنية اللبنانية التي تركز خطابها على الأزمة الاجتماعية ونقد النظام الطائفي وموقفه من الصراع العربي - الإسرائيلي، فيما راحت مجموعات منها تتدرب عسكرياً لدى المنظمات الفلسطينية. وفي المقابل، شكل الكتائب العمود الفقري لجبهة تدافع عن النظام ونمت في حضنها «القوات اللبنانية» المسلحة.

وكان لبنان آنذاك، وفق الخازن، «يشهد ذروة العمل الحزبي... وسجل النشاط الحزبي توسعاً وتنوعاً سياسياً وفكرياً وعقائدياً لم يعرف لبنان مثيلاً له، من قبل، وشمل جميع الطوائف والفئات الاجتماعية... وتجاوز عدد الأحزاب الرئيسية الخمسة عشر».

وفيما يلاحظ الخازن أن «الشريحة الاجتماعية الأكثر انخراطاً في أحزاب وتيارات تلك المرحلة كانت الشباب من طلاب المدارس في المرحلة الثانوية ومن طلاب الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة»، يرصد طرابلسي نشوء «حركة الشبيبة المسيحية» التي أصدرت بياناً «يدين ثروة الكنيسة وقوتها السياسية اللتين تساهمان في نظام الاستغلال الإقطاعي والرأسمالي... ودور الكنيسة في تبرير هذا النظام». وما مثّلته «حركة الشبيبة الأرثوذكسية»، بقيادة المطران جورج خضر، من «محاولة لإحياء مسيحية شرقية منفتحة على الحوار مع الإسلام». وكذلك حركة غريغوار حداد، مطران بيروت للروم الكاثوليك، الذي انتقد «النظام الاجتماعي الاستغلالي داعياً إلى الالتزام الجاد بقضية الإنسان العربي». إضافة إلى حراك السيد موسى الصدر.

ويرى الخازن أن تأسيس الحركة الوطنية «مثّل تحولاً كبيراً في موازين القوى السياسية لمصلحة أحزاب اليسار وفي أسلوب العمل السياسي المعارض. لم تكن الحركة الوطنية حزباً سياسياً منظّماً بل تجمعاً لأحزاب ومنظمات وشخصيات سياسية ذات توجهات يسارية وقومية... والإنجاز السياسي الأهم للحركة كان إعلان البرنامج المرحلي لإصلاح النظام السياسي في 18 آب 1975. لكن على الرغم من أهمية مضمون البرنامج فإن توقيت إعلانه، أي بعد اندلاع الحرب، أفقده زخمه ومن مراميه الإصلاحية، إذ أتى وكأنه نتيجة لتغيير موازين القوى العسكرية نظراً لتحالف أحزاب الحركة مع المنظمات الفلسطينية».

ويرجّح الخازن أنه «لولا وجود جنبلاط على رأس الحركة الوطنية لما كان تشكيلها ممكناً، ولما كانت تمتّعت بالنفوذ الكبير الذي وصلت إليه في منتصف السبعينات. لقد أعطى جنبلاط الحركة الوطنية غطاءً شرعياً وساهم في إدخال الحركة في اللعبة السياسية الداخلية، كما أنه أعطاها وزناً سياسياً ودعماً معنوياً لم يكن يتمتّع بهما أي من أحزاب الحركة بمفرده. أما جنبلاط فكان لديه المناعة السياسية الكافية على المستويين الطائفي (الدرزي) والوطني، الأمر الذي جعله الزعيم السياسي الوحيد القادر على قيادة هذا التكتل المتنوع وعلى جعله مؤثّراً في الحياة السياسية».

وبعد ثلاثين سنة من اندلاع الحرب التي انخرطت فيها الحركة الوطنية، قال محسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، في ذكرى أربعين رفيقه جورج حاوي الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي: «الخطأ الأول، أننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً؛ والخطأ الثاني، أننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان- تحت وطأة هذين الخطأين- من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة كبرى إلى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الأيام».

وقد أقدم إبراهيم على هذا «النقد الذاتي» على الرغم من «أننا لم نسمع حتى اللحظة ما يعادله وضوحاً أو يلاقيه صراحة من الضفة الأخرى». لكن الأهم هو الإجابة التي توصل إليها الخازن عن سؤال افتراضي طرحه، وهو: «لو لم تندلع الحرب، ولو جرت الانتخابات النيابية في موعدها عام 1976، كيف كانت ستتشكل الخارطة الحزبية؟». أما الإجابة فهي: «يمكن القول إن انتخابات 1976 كانت ستعطي الأحزاب، ولا سيما اليسار، مجالاً لتوسيع قاعدتها التمثيلية في المجلس النيابي على حساب القوى السياسية التقليدية ضمن الطوائف جميعها».



التحالف الرباعي بين "المستقبل" و"الاشتراكي" و"أمل" و"حزب الله" أثر في مسيرة 14 آذار



من قرنة شهوان إلى اغتيال الحريري: «١٤ آذار»

يمكن القول إنه على الرغم من الانتقادات الكثيرة والمتعدّدة التي وجِّهت إلى نظام ما بعد الطائف، أو «الانقلاب على الطائف» بحسب ألبير منصور، فإن ولادة معارضة له قد تأخرت. ومن أسباب ذلك: أولاً، التوافق الدولي في شأنه وتكليف سوريا إدارة البلد؛ ثانياً، تشتت القوى المعارضة واختلافها في مقاربة النظام وسياساته ووصاية دمشق ووجود جيشها واستخباراتها؛ وثالثاً استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الجنوب والبقاع الغربي وراشيا.

هكذا، بقيت معارضة القوى المسيحية، التي وافقت على اتفاق الطائف (القوات اللبنانية) والتي رفضته (التيار العوني)، إضافة إلى حزبي «الكتائب» و»الكتلة الوطنية»، مقاطعة للنظام وانتخاباته النيابية. وقد طغى على خطابها الإحباط، في ظل وجود زعمائها في الخارج (ميشال عون وأمين الجميل وريمون إده) وفي السجن (سمير جعجع).

في الأثناء، برزت أصوات معارضة في البرلمان وخارجه، تركز على سياسات النظام، ولا سيما رئيس الحكومة رفيق الحريري، في شؤون الاقتصاد والمال والإدارة والإنماء ومشروع سوليدير لوسط بيروت والهدر والفساد...

وبعد تحرير الشريط الحدودي من الاحتلال الإسرائيلي في أيار 2000، «بلغ الاستياء المسيحي من استبعاد الأحزاب المسيحية حدّاً بعيداً»، وفق خالد زيادة. «وقد عبّر عن ذلك لقاء قرنة شهوان برعاية البطريركية المارونية (تألف من أحزاب وشخصيّات مسيحية في 2001). وجاء هذا اللقاء بعد بيان المطارنة في أيلول 2000، فتناول فساد الانتخابات النيابية التي جرت في ربيع السنة نفسها، وتطرّق بيان اللقاء إلى الوضع الاقتصادي المزري، وعدم قيام الدولة بواجبها في حماية الإنتاج الزراعي والصناعي، ومزاحمة اليد العاملة الأجنبية للعمالة اللبنانية. أما في الشأن السياسي، فأشار البيان إلى فقدان لبنان سيادته، في ظل هيمنة تشمل جميع المؤسسات والإدارات والدوائر والمرافق. ولهذا اختلّت الإدارة وضاعت المسؤولية وارتبك القضاء، وبات الناس يعيشون في جو من الخوف والذل».

يضيف زيادة: «تطرّق البيان إلى المسألة التي لم يسبق أن أشير إليها بهذا الوضوح: وبعد أن خرجت إسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره وتمهيداً لانسحابه نهائيّاً، عملاً باتفاق الطائف؟».

ويلاحظ زيادة: «أدخل بيان المطارنة، ومن بعده بيانات قرنة شهوان، لغة جديدة إلى الحياة السياسية اللبنانية كانت مفقودة طوال ما يزيد على عقد من الزمن. وازدادت مساحة الاعتراض على الوجود السوري، لكن رئيس سوريا الجديد الذي تولى الرئاسة عام 2000 بعد وفاة والده، كان أكثر إصراراً على تحدّي الأصوات المعارضة، بتبنّيه التجديد للرئيس إميل لحود، فاتخذ مجلس الوزراء اللبناني قراراً بتعديل الدستور وتمديد ولاية رئيس الجمهورية ثلاث سنوات في 28/ 8/ 2004. ولم يتأخر صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559 الذي نصّ على انسحاب القوات الأجنبية من لبنان، وحلّ الميليشيات، وإجراء انتخابات نيابية حرّة. وكان واضحاً أن رفيق الحريري سيفوز مع حلفاء له في الانتخابات التي ستجري في ربيع 2005، وفي هذا السياق جاء اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وأدت جريمة الاغتيال إلى انقسام حاد بين فريق مؤيّد للنظام السوري انتظم في تظاهرة 8 آذار (ضمت حزب الله وحركة امل وحزب البعث والسوري القومي والمردة)، وفريق ردّ بتظاهرة ضخمة في 14 آذار (ضم تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية والكتائب اللبنانية وجمهور لبناني واسع). وطالب خطباء هذه التظاهرة في ساحة الشهداء، بخروج القوات السورية من لبنان. ورضخ النظام السوري أمام الزخم الذي عبّرت عنه تظاهرات واعتصامات فريق 14 آذار، وأمام الضغط الدولي والمطالبة بتحقيق دولي بجريمة اغتيال الحريري».

على هذا النحو ولد تحالف 14 آذار، الذي سماه البعض ثورة «الاستقلال الثاني» و»ثورة الأرز». وقد سبق ذلك تحركات ولقاءات، منها «البريستول» و»المنبر الديمقراطي»، لتجميع القوى المعارضة. وفيما كانت تعلو في أجواء 14 آذار أصوات تدعو إلى التوجه إلى قصر بعبدا لإسقاط الرئيس لحود، تحفّظت قوى وشخصيّات، مارونية خصوصاً، على إسقاط الرئيس بالشارع. وفي تلك الأجواء المشحونة، بدأت سلسلة اغتيالات استهدفت عدداً من شخصيّات 14 آذار.

في الأثناء، يقول زيادة: «جرت الانتخابات النيابية في عام 2005 بتوافق رباعي بين «المستقبل» و»التقدمي الاشتراكي» و»حزب الله» وحركة «أمل». فثارت في الوسط المسيحي ردة فعل أدت إلى حصول التيار العوني على تمثيل نيابي بارز. لكن قوى 14 آذار فازت بأغلبية نيابية، وكُلِّف برئاسة الحكومة فؤاد السنيورة، وزير المالية في حكومات الحريري. وتمثّل «حزب الله» في الحكومة أول مرّة».

يضيف: «على الرغم من الانقسامات السياسية الحادة، فإن حكومات ما بعد 2005 كانت كلها (ما عدا حكومة نجيب ميقاتي 2011- 2013) بمشاركة جميع الأطراف السياسية». وفيما كانت «العلامة الأبرز التي رسمت ملامح المرحلة السياسية منذ عام 2006... هي التفاهم الذي عُقد بين «حزب الله» و»التيار العوني»... شهدت المرحلة استخدام «حزب الله» الضغوط، بما في ذلك السلاح، للوصول إلى تقاسم السلطة. فاحتل مع حلفائه وسط بيروت من نهاية عام 2006 وحتى أيار 2008، بعد اجتياحه بيروت ومناطق من الجبل، وانتهى الأمر في مؤتمر الدوحة بتعديل للدوائر الانتخابية وحصول عون و»حزب الله» على الثلث الضامن (المعطل) في الحكومة، وانتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية».

بعد ذلك، ولا سيما بعد انتخابات 2009، راح تحالف 14 آذار يبهت. وبعدما خسر العنصر الشيعي الوازن نتيجة التحالف الرباعي في 2005، فترت حماسة العديد من القوى المشاركة فيه، من سعد الحريري إلى وليد جنبلاط الذي انسحب من التحالف.




لماذا لم تتوحّد قوى الإحتجاج والإعتراض؟


منذ السنوات الأولى لنظام ما بعد الحرب تميّزت أصوات علمانية وديمقراطية ومدنية ويسارية تنتقد وتعارض السياسات الاقتصادية والمالية، ومشروع إعادة إعمار وسط بيروت، وتحالف الميليشيات والمال الذي قبض على السلطة ومؤسسات الحكم.


وبعد دورتي انتخابات نيابية، في 1992 و1996، سعى من خلالهما النظام، الذي حلّ باتفاق دولي وتكفّلت سوريا الوصاية عليه، انطلقت حملة تطالب يإجراء الانتخابات البلدية. والهدف، إضافة إلى كون ذلك حقاً كفله الدستور، هو مشاركة الشعب في «السلطات»، وكسر احتكار القوى النافدة الحياة السياسية والدولة ومؤسساتها... والمجتمع وتمثيله. وحقّقت الحملة انتشاراً، وغنّى لها زياد الرحباني «بلدي بلدتي بلديتي»، ونُظِّمت الانتخابات البلدية الأولى بعد الحرب، بعد نحو ثلاثة عقود من توقفها.


في الأثناء، خاضت مجموعة من المثقفين معركة دفاع عن حق تكوين جمعيات، إثر تقدمها بعلم وخبر لتأسيس جمعية لمراقبة الانتخابات وديمقراطيّتها. وقد قابل وزير الداخلية ميشال المر ذلك بالرفض، محاولاً القبض على المجتمع بالادعاء أن تأسيس الجمعية يحتاج إلى «ترخيص». ما اعتبره المؤسسون، ومنهم حقوقيون، هرطقة قانونية، مؤكدين أن الأمر مجرد «علم وخبر» للداخلية. وانطلقت الجمعية.


مذ ذاك، خاضت هذه الأصوات كثيراً من المعارك الانتخابية والسياسية والنقابية والمطلبية، وتقاطعت ونسّقت. إلى أن جاء الربيع العربي، فانطلقت حركة لبننة شعار «إسقاط النظام» الذي تردد في تونس ومصر وغيرهما، وجعلته: «إسقاط النظام الطائفي». وتحت هذا الشعار الكبير والمعقّد، تظاهر آلاف اللبنانيين واللبنانيات، في الشوارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، لأسابيع.


ثم، في 2013، نُظِّمت احتجاجات على التمديد للمجلس النيابي، داعية إلى تنظيم الانتخابات في موعدها.

وفي 2015، انطلقت حملة «طلعت ريحتكم» ضد مافيات النفايات، وحملة «بدنا نحاسب».

وأعقب ذلك، بعد نحو سنة، حركة احتجاج على سلة ضرائب فرضتها الحكومة.

وخيضت انتخابات البلدية في 2016 بزخم «معارض» في العديد من المناطق ولا سيما في العاصمة، حيث برزت تجربة «بيروت مدينتي».


وقبل انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، التي فجّرتها الأزمة الاقتصادية والمالية وقرارات حكومية، كانت قوى معارضة، يسارية خصوصاً، ومجموعات تشكّلت خلال محطات الاشتباك المتعددة مع «النظام»، إضافة إلى منظمات مدنية، تتحرّك في الشوارع والساحات اعتراضاً على المحاصصة والفساد والسياسات الاقتصادية والمالية... إلخ.


خلال هذه المسيرة، جرت محاولات كثيرة لبناء تحالفات أو ائتلافات، لكنّها لم تولد، وما أُعلن منها لم يستمر أو يفعّل. وانتشرت، لا سيما خلال 17 تشرين وبعدها «المجموعات».


إزاء ذلك، ما زال يتردد سؤال: لماذا لم تنتج قوى وتشكيلات هذا «التيار» الواسع، كلّها أو بعضها، إطاراً جامعاً ومشروعاً وبرنامجاً سياسيين؟


ويراوح هذا السؤال ما بين النيات الحسنة والشعور بأن هذه القوى والتشكيلات لن تكون فاعلة إلا إذا ما توحّدت. أولاً، لأن تفرّقها يشتت قوّتها ويُبقيها أصواتاً احتجاجية واعتراضية وموسمية؛ وثانياً، لأن الخصم قوي وأخطبوطي ومتعدد الرؤوس؛ وثالثاً، لأن البلد تحت سلطة القوى المذهبية المرتبطة بالخارج «أفلس» وبحاجة إلى رؤية وقوة دفع تخرجه من الانسداد والمجهول.


لكن، ما بين النيات والواقع ثمة اختلافات عديدة بين تلك القوى والتشكيلات. وما يزيد من تلك الاختلافات ويجعلها فاعلة هو تقديمها الخطابات والعقائد والمواعظ الأخلاقية على السياسية. فهذه، كثقافة وممارسة، محدودة في بنى تلك القوى والتشكيلات وأدائها وخطاباتها. وهو ما فتح الباب واسعاً لتسلل خطابات قوى السلطة والانقسام المذهبي- الإقليمي («حزب الله» العنوان الرئيس لاختلاف وجهات النظر) إلى مساحة الاحتجاج والاعتراض وخطاباتها، ووسع الهوة في ما بين القوى والتشكيلات... وغيّب البوصلة.


ومتى تنجح تلك القوى والتشكيلات في وضع الحصان (السياسة، مشروعاً وبرنامجاً وإطاراً) قبل العربة (الخطابات والعقائد والمواعظ الأخلاقية)، فهذا رهن بها. وهو «أمل» كثيرين.

MISS 3