جوردن هوفمان

يوهانس فيرمير يُثير اهتمام المخرجين حتى الآن

20 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

متحف "ريكس" في امستردام

في مثل هذه الفترة من السنة الماضية، بدأ السياح يتدفقون نحو هولندا. لكنهم لم يرغبوا في رؤية حدائق التوليب بكل بساطة، بل بدأ متحف «ريكس» في أمستردام يعرض 28 لوحة من أصل 37 للرسام الهولندي يوهانس فيرمير، بين شباط وحزيران. تعليقاً على المعرض، كتب ناقد في صحيفة «غارديان» أن ذلك الحدث كان «واحداً من أكثر العروض إثارة على الإطلاق». كذلك، اعتبرت «نيويورك تايمز» ذلك العرض «مثالياً من حيث التقديم والإيقاع وواضحاً ونقياً بقدر الضوء الذي يتدفق من تلك النوافذ في مدينة «ديلفت». كما ذكرت الصحيفتان أن عرضاً بهذه الضخامة لا يمكن أن يتكرر مجدداً.



زار 650 ألف شخص ذلك المعرض المدهش، لكن يبقى عدد ممن لم يحصلوا على فرصة زيارته هائلاً. لحسن الحظ، قررت مخرجة الأعمال الوثائقية سوزان رايس تشغيل كاميراتها خلال المرحلة الطويلة والمثيرة للجدل التي سبقت تنظيم المعرض، فقد بذل أمناء المتحف حينها جهوداً كبرى لإقناع متاحف أخرى وجامع قِطَع أميركي بالتخلي عن لوحاتهم القيّمة.

أنتجت تلك الجهود فيلم Close to Vermeer (قريب من فيرمير) الذي أصبح متاحاً اليوم على معظم منصات العرض الكبرى. إنه عمل جاذب ومؤثر أحياناً.

يُعرّفنا الوثائقي سريعاً على الرسام وطالبه جوناثان جانسون كي يفهم غير المطّلعين على تاريخ الفنون السبب الذي يجعل تلك اللوحات مميزة لهذه الدرجة. سنتعرّف أيضاً على آبي فانديفير الحيوية، وهي امرأة نشأت في كندا، وتخرّجت من جامعة «برينستون»، وتعيش في «لاهاي». هي تتولى الاهتمام بلوحة «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» وتوحي بأن علاقة خارقة للطبيعة تجمعها مع واحدة من أشهر صور الفن الغربي.

سنتعرّف أيضاً على توماس كابلان، ملياردير مقيم في نيويورك يملك واحدة من أكبر المجموعات الفنية الهولندية. قد تختلف نظرة المشاهدين إليه، فيعتبره البعض أميناً ذات نوايا حسنة أو رجلاً يميل إلى التباهي بأفضل القطع الفنية التي يشرف عليها. تكشف المخرجة نواياها الحقيقية أحياناً حين تنتقل إلى وجوه الأمناء على اللوحات، فيبدو بعضهم مذعوراً من تعامل كابلان الفظ مع لوحة «شابة جالسة إلى آلة البيانو»، وهي واحدة من لوحتَين فقط اشترتهما جهات خاصة.

يحتاج كل فيلم ناجح إلى شخصية شريرة، لكن يبدو كابلان أسخف من أن يحمل هذه المواصفات. قد يكون ممثل «متحف دوق أنطون أولريش» الصارم في مدينة «براونشفايغ» الألمانية أقرب إلى تلك الشخصية، فهو يرفض التفكير بالتخلي عن لوحة «الفتاة مع كأس النبيذ» للمشاركة في ذلك المعرض الاستثنائي. قد يتمكن مئات آلاف الأشخاص من مشاهدتها في أمستردام، لكن يتعلق سبب الرفض بحاجة الطلاب المحليين إلى رؤيتها قبل امتحاناتهم، ولا مفر من ظهور المشاكل عند تغيير هذا البرنامج الاعتيادي.

على صعيد آخر، يرفض «متحف متروبوليتان للفنون» في نيويورك التخلي عن اثنتين من خمس لوحات لفيرمير لأن هذا القرار ينتهك قاعدة تمنع إقراض اللوحات. كذلك، تُعتبر لوحة ثالثة بعنوان «امرأة شابة مع إبريق الماء» هشة بدرجة تمنع سفرها. تنطبق هذه المواصفات أيضاً على لوحات أخرى في فيينا وبريطانيا العظمى. أما لوحة «عالِم الفلك» التي تتواجد عموماً في متحف اللوفر في باريس، فقد استعارتها أبو ظبي ولا يمكن تحريكها من مكانها.

بعدما أحرج «متحف متروبوليتان للفنون» الأميركيين بسبب عدم استعداده لتقديم التنازلات، عبّر متحف «فريك كولكشن» في نيويورك عن حماسه لتقاسم لوحاته الثلاث، على غرار «المعرض الوطني» الذي يشمل أربع لوحات في العاصمة واشنطن. لكن اتخذ الوضع منحىً معقداً في هذه المرحلة بالذات. ربما يشمل «المعرض الوطني» ثلاث لوحات لفيرمير.

قبل بضعة أشهر على افتتاح المتحف، أعلن «المعرض الوطني»، بعد دراسة دقيقة، أن لوحة «فتاة مع فلوت»، وهي واحدة من أعلى اللوحات قيمة، كانت مزيفة. طرح الأمناء في واشنطن حججاً قوية، لكن رفض أمين متحف «ريكس» المسؤول عن المعرض في هولندا، غريغور ويبر، وفريقه ذلك الادعاء واحتسبوها ضمن اللوحات المُعدّة للعرض. استلزم هذا الوضع اجتماعاً عاجلاً وراء الأبواب المغلقة بين مقيّمي الفنون، وطغى على الاجتماع توتر يفوق ما يمكن توقعه من وثائقي جميل عن تنظيم معرض في متحف.

بعد مشاهدة الوثائقي، يسهل أن يستنتج المشاهدون عظمة ذلك الرسام وتأثير أعماله على حياة عدد كبير من الناس. تبيّن أن اللغز الكامن وراء فيرمير كان عاملاً جاذباً للمخرجين في السنوات الأخيرة، علماً أن هذا الرسام يفتقر إلى معلومات معروفة عن مسيرته أو سجلات عن تدرّبه مع محترفين آخرين اشتهروا في عصره. حتى أن أرملته الفقيرة باعت لوحاته لشراء الخبز.

قد يكون الفيلم البريطاني Girl With a Pearl Earring (الفتاة ذات القرط اللؤلؤي) في العام 2003 أشهر مثال على جاذبية أعماله. يروي هذا الفيلم مرحلة صناعة هذه التحفة الفنية التي تُعتبر من أشهر أعمال فيرمير. يؤدي الممثل كولين فيرث دور ذلك العبقري الكئيب، صاحب الشعر المنساب والوجه المتجهم، فيظهر هذا الأخير وهو يعمل في قبوه ويتجنب زوجته المتذمرة وحماته المزعجة. تلعب سكارليت جوهانسون دور خادمته الجديدة والبريئة «غرييت» التي تصبح مُلهِمته، ولا مفر من حصول نظرات شوق بينهما طبعاً في لحظات معيّنة. (يظهر أيضاً الممثل كيليان ميرفي، الذي فاز بجائزة «أوسكار» حديثاً، بدور اللحام الشاب الوسيم في سوق مدينة «ديلفت»).

الفيلم مقتبس من رواية حققت أعلى المبيعات، وهو يرتكز على مجرّد تخمينات ولا يمكن اعتباره تحفة فنية. مع ذلك، تكثر التفاصيل المبهرة التي تشير إلى تلك الحقبة الزمنية القديمة. يتّسم العمل بإضاءة مناسبة وإطار دقيق للأحداث، وهي عوامل إلزامية في أي فيلم عن فيرمير. تُستعمل مشاهد فيرث وجوهانسون وهما يطحنان حجر اللازورد للحصول على اللون الأزرق المثالي كعذرٍ واضح لتسليط الضوء على الانجذاب الجنسي بينهما، لكنها تؤكد أيضاً على الساعات الطويلة التي خصّصها الرسامون في تلك الحقبة لتحضير لوحاتهم.

هذا التفصيل يوصلنا إلى أهم سؤال على الإطلاق: كيف نجح فيرمير في إنهاء لوحاته؟ كما هو الوضع مع شكسبير وموزار، تكثر نظريات المؤامرة في هذا المجال. لا تتعلق المشكلة هذه المرة بهوية المبدع الحقيقي بل بالسؤال التالي: هل كان فيرمير رساماً موهوباً بدرجة استثنائية أم رجلاً ذكياً يجيد استعمال الأدوات، فحقق إنجازاً علمياً عبر استخدام تقنيات جديدة؟ يشير الوثائقي إلى وجود أدلة مفادها أن الرسام الهولندي كان يملك أداة جديدة: حجرة التصوير المظلمة.

يمكن إيجاد مؤشرات أو أدلة أخرى عن هذه الفكرة المحتملة في الفيلم الغريب Tim’s Vermeer (فيرمير من منظور تيم)، من العام 2013. كان ذلك الوثائقي من إنتاج الساحرَين ومفتعلَي المقالب بن وتيلر، بالتعاون مع فارلي زيغلر، وهو يتمحور حول «تيم جينيسون»، مخترع بارع في استعمال الحواسيب لا علاقة له بالرسم، لكنه يصبح مهووساً بمحاولة إعادة ابتكار أساليب فيرمير.

على مر سنوات من الاستكشاف الذي ترافق مع انتكاسات أقنعته بأنه يسير في الاتجاه الصحيح، ينجح «جينيسون» (نُكرر بأنه ليس رساماً) في نَسْخ لوحة فيرمير التي تحمل عنوان «درس الموسيقى». هو يعيد ابتكار استوديو الرسام الهولندي أولاً (هذه العملية وحدها تتطلب سنة كاملة تقريباً)، ثم يُركّب سلسلة من العدسات والمرايا ويبدأ بمطابقة كل لون يشاهده ببطء، نقطة تلو الأخرى. يفترض الفيلم أن فيرمير لم يتعامل مع لوحاته الفارغة وهو يحمل رؤية محددة، بل إنه تصرّف وكأنه كاميرا بشرية. قد تفسّر هذه العملية الطويلة السبب الذي يجعل أعمال فيرمير سلسة لهذه الدرجة، حتى في اللوحات الأصغر حجماً.

لن نتأكد يوماً من صحة نظرية «جينيسون»، مع أن عدداً من الخبراء الآخرين، منهم الرسام البريطاني ديفيد هوكني، اقتنع بهذه الفرضية في نهاية المطاف. لكن حتى لو كانت تلك النظرية صحيحة، يُصِرّ صانعو العمل على وجود جوانب فنية مدهشة في طريقة تصميم لوحات فيرمير. هم يشيدون بحسّه الإبداعي الكامن وراء تلك التصاميم وإصراره على إتمام هذه المهمة حتى النهاية.

إذا لم تكن تلك الأعمال كافية لزيادة فضول بعض الناس حول الرسام الهولندي، يمكنهم اختيار الفيلم الدرامي The Last Vermeer (آخر لوحات فيرمير)، حيث يجسّد غاي بيرسي دور «هان فان ميغرين»، مُزوّر تُحَف فنية هولندي (قد لا تكون هذه الفكرة مناسبة!). هو يُقنع النازيين بشراء لوحات مزيفة لفيرمير: هذا الجزء من القصة مثير للاهتمام!



مخرجة الوثائقي



من المعروف أن أدولف هتلر كان يحب الفن (يتّضح هذا الجانب في الفيلم المدهش The Train (القطار) من بطولة بيرت لانكاستر). كان هتلر يملك لوحة «فن الرسم» لفيرمير، لكنها تقبع راهناً في «متحف تاريخ الفنون» في فيينا، علماً أن وجودها هناك يثير الجدل. يتّسم فيلم The Last Vermeer بجوانب ترفيهية واضحة، لكنه يطرح أيضاً مواصفات مثيرة للاهتمام عن رجلٍ اعتُبِر بعد الحرب بطل المقاومة، مع أنه قد يكون مجرّد مخادع نموذجي. قد يفضّل محبّو الفنون الذين يشاهدون هذا الفيلم رؤية قصة حيث يعثر المحققون أخيراً على لوحة «الحفل الموسيقي»، وهي واحدة من 13 تحفة فنية سُرِقت من «متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر» في بوسطن، في العام 1990. تشمل تلك المجموعة أيضاً لوحات لرسامين مثل رامبرانت، وإدغار ديغاس، وإدوارد مانيه. للأسف، تبقى أي نهاية سعيدة لهذه القضية مجرّد وهم، حتى الآن على الأقل، فهي تتعارض مع مصير لوحات فيرمير التي سُرِقت سابقاً قبل استرجاعها في نهاية المطاف.




ملصق Close to Vermeer



مشهد من الوثائقي

MISS 3