فرانسيس غافين

نهاية عصر الندرة سبّبت أكبر أزمة في العالم

21 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جين بينغ في بكين | 4 شباط ٢٠٢٢

في العام 2024، تتراجع مظاهر المجاعة والأمّية بدرجة ملحوظة، وقد ارتفع متوسط العمر المتوقع بنسبة تفوق الضعف على مر القرن الماضي. كذلك، ظهرت ثروات بكميات لا يمكن تصوّرها، ويستطيع الناس العاديون الحصول على كمية هائلة من المعلومات فوراً، وتظهر أدوات عمل جديدة وتقنيات لإنقاذ حياة الناس يومياً. في غضون ذلك، أصبحت الإبادات الجماعية نادرة، وبدأ التسامح يتحول إلى معيار مشترك، وأصبح الاستعمار الرسمي جزءاً من الماضي، ومن المستبعد أن يتحول الركود الاقتصادي إلى كساد فائق.

الأهم من ذلك هو تلاشي العوامل التي تدفع الدول إلى تحريض مجتمعاتها لخوض حروب غزو كاملة. اليوم، ينتظر الناس من الدول أن تحمي مواطنيها وتمنحهم المنافع بدل أن تستعملهم كأداة عسكرية لهزم الخصوم ومصادرة الأراضي. تُعتبر الأفكار والابتكارات، لا الأراضي، مصادر القوة الحقيقية في هذا العالم الجديد.

باختصار، أحرز العالم تقدّماً فائقاً لكبح مشكلات ندرة الموارد التي اجتاحت البشرية طوال آلاف السنين وكانت من أبرز مسببات الحروب الشاملة التي ترافقت مع النهب، وإنشاء الإمبراطوريات، والغزو. لكن لم يكن متوقعاً أن يؤدي إنشاء عالم أكثر ازدهاراً وأماناً إلى ظهور مجموعة كاملة وجديدة من التحديات التي تجازف بافتعال كارثة كبرى، حتى أنها قد تُمهّد لانقراض البشر إذا لم تُعالَج المشكلة بالشكل المناسب.

ينتج النظام الدولي المعاصر كمية هائلة من المواد بفضل التبادل العالمي المتزايد، لكن يصعب توزيعها بشكلٍ منصف بين جميع الشعوب. ينجم هذا الازدهار الكبير عن توسّع التجارة والقوة الصناعية، لكنه يطرح مخاطر كارثية على مستوى المناخ، والهجرة، والبيئة، والصحة العامة. سمحت التقنيات الجديدة التي أنتجها القطاع الخاص بِحَلّ عدد هائل من المشكلات، لكنها سبّبت في المقابل مشكلات مرعبة جديدة. كان مفاجئاً مثلاً أن تطرح البيانات والمعلومات غير المحدودة تهديدات مختلفة، لكنها تساوي بخطورتها المعلومات الشحيحة التي سيطرت عليها المؤسسات الدينية أو الدول في الماضي.

يتّسم العصر الجديد بقدرة استثنائية على نقل كمية هائلة من الأفكار، والأموال، والسلع، والناس، حول العالم في أسرع وقت. لكن لا تسمح هذه الثورة في مجال النقل بتحرّك المواطنين الصالحين والمنتجات الجيدة حول العالم فحسب، بل إنها تنقل أيضاً عناصر غير مرغوب فيها، بدءاً من مسببات الأمراض وصولاً إلى الإرهابيين والأفكار السيئة، وغالباً ما تترافق هذه العملية مع عواقب وخيمة. كذلك، ارتفع سقف التوقعات بدرجة فائقة من دون النجاح في تحقيقها. يدعم عصر الوفرة التسامح والنزعة الفردية، لكنه يُضعِف التماسك الاجتماعي والمصالح المشتركة التي تُعتبر ضرورية لتجاوز التحديات المطروحة. تبيّن أن معايير ومؤسسات الحُكم التي تطورت لكبح ندرة الإمدادات لا تسمح بمواجهة التحديات المعاصرة، ما يؤدي إلى تأجيج الانقسامات ونشوء أزمة على مستوى الشرعية السياسية.

في حقبة أصبحت فيها مفاهيم النهب والغزو والإمبراطوريات غير منطقية، كيف يمكن أن نفهم حقيقة الاضطرابات الراهنة في السياسة العالمية، منها الأعمال الوحشية الحاصلة في الشرق الأوسط، والغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا، وتصاعد التوتر بين أقوى دولتَين في العالم، الصين والولايات المتحدة؟ ولماذا تبدو أهم القوى العالمية منشغلة بمسائل كانت جزءاً من عصر الندرة، لا سيما المنافسة بين القوى العظمى والحروب، فيما تقترح حلولاً غير مناسبة للمشكلات المُلحّة التي يطرحها هذا العالم المبني على وفرة الإمدادات؟ تتعدد الأسباب الكامنة وراء هذا الوضع، لكن تبرز ثلاثة عوامل أساسية.

أولاً، كان الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022 الاستثناء الذي يثبت القاعدة، فهو سلّط الضوء على مخاطر القرارات الاستراتيجية المبنية على فرضيات بالية في شأن عمليات الغزو. من وجهة نظر قومية ضيقة، بدت الرغبة في السيطرة على إقليم دونباس شبه منطقية في العام 1900، لأن روسيا كانت قادرة على تعزيز قوتها في عالمٍ مبني على ندرة الموارد ونشوء الإمبراطوريات وحملات الغزو عبر الاستفادة من عوامل مثل غنى المنطقة بالفحم والقمح، واستراتيجية الدفاع العميق، ورضوخ الشعب هناك. لكن أصبحت إمدادات الأغذية والوقود رخيصة ووافرة في العالم المعاصر، وتراجعت قيمة الأراضي، وزادت صعوبة غزو المساحات، وتبدو الاستراتيجيات الكبرى البديلة واعدة أكثر من غيرها، وبات العالم مستعداً لمعاقبة روسيا على انتهاك معايير السيادة وحقوق الإنسان، ما يعني أن موسكو لن تصبح أكثر نفوذاً على المدى الطويل حتى لو نجح غزوها لأوكرانيا. تكثر الاختلافات البارزة بين الحروب الأميركية الكارثية في الشرق الأوسط بعد هجوم 11 أيلول والغزو الروسي لأوكرانيا، لكن يعكس كلاهما قرارات استراتيجية رديئة ومبنية على سوء تقديرات عميقة حول طبيعة القوة ودوافع النظام الدولي المعاصر. يؤكد هذا التوجه أيضاً على عدم فهم مصاعب استعمال القوة، فهي لن تُسهّل غزو الأراضي ولن تُخضِع الشعوب العنيدة في هذا العصر.

ثانياً، يجب أن يعترف الجميع بأن الحروب والصراعات قد تنشأ لأسباب مختلفة عن النهب والغزو الإمبريالي. يُفترض أن نُميّز مثلاً بين الغزو الإمبريالي في الماضي (حملة واسعة وغير محدودة لكسب الأراضي والمستعمرات) ورغبة الدولة المحدودة في استرجاع أراضٍ خسرتها بطريقة غير منصفة. غالباً ما تشمل أخطر الأماكن في العالم (كشمير، شبه الجزيرة الكورية، الشرق الأوسط، مضيق تايوان) دولاً مستعدة للقتال وتكبّد تكاليف هائلة لاستعادة الأراضي التي تعتبرها مُلْكها تاريخياً. قد يبدو مفهوما الغزو الإمبريالي وتحرير الأراضي متشابهَين ظاهرياً، لكنهما يرتكزان على عوامل وقوى متنوعة، ويتأثران بحسابات مختلفة على صلة بالتكاليف والمنافع، ويتطلبان ردوداً استراتيجية كبرى ومختلفة.

يصعب وضع الطموحات الصينية بالاستيلاء على تايوان في خانة واضحة: هل تعكس رغبة البلد في استرجاع أراضيها أم نزعته إلى السيطرة على العالم؟ لكن بغض النظر عن هدف الصين النهائي، من الواضح أن الظروف المتبدلة التي أنتجها عصر وفرة الإمدادات تُصعّب عودة أي إمبراطورية أوراسية متوسّعة ومشابهة لفرنسا في عهد نابليون، أو ألمانيا النازية، أو اليابان في زمن الإمبراطورية، أو الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين. على عكس الدول والإمبراطوريات التي نشأت في عصر الندرة، لا تملك الصين سبباً منطقياً كي تخشى التعرّض للغزو. وحتى لو كانت ترغب في غزو أو احتلال بلدان مجاورة مثل الهند، واليابان، ودول جنوب شرق آسيا، لن تكون مهمّتها سهلة بأي شكل، لا سيما إذا أدت سيطرتها على تايوان مستقبلاً إلى تجدّد التوازن العسكري والانتشار النووي في المنطقة. في عصر الإمدادات الوافرة، قد تكتشف الصين قريباً أن منافع الغزو نسبةً إلى التكاليف انعكست بالكامل خلال القرن الماضي. حتى لو كانت بكين ترغب في تنفيذ شكلٍ من الغزو الإمبريالي، يصعب أن يتوقّع أحد نجاحها. حتى أنها قد تجازف بالتعرّض للهزيمة والانهيار إذا أطلقت هذا النوع من المحاولات.

أخيراً، قد لا يفهم الناس أو المؤسسات أو الدول التغيرات الحاصلة في محيطهم وظروفهم قبل مرور فترة تصل أحياناً إلى عقود طويلة، ما يمنعهم من تحديث فرضياتهم ومفاهيمهم وممارساتهم السياسية بما يتماشى مع المستجدات. على مر آلاف السنين، تركت عمليات الغزو، والإمبراطوريات، والثورات العنيفة (والمؤسسات الحاكمة التي نشأت للتعامل مع تلك الأزمات) ندوباً عميقة وفرضيات لا يشكك بها الكثيرون. لهذا السبب، تباطأ القادة والشعوب والدول في فهم حقيقة التغيرات العميقة في التركيبة السكانية، والتكنولوجيا، والاقتصاد، والوقائع الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في كبح الندرة، لكنها زادت مشكلات الوفرة سوءاً.

قد يترافق غياب البصيرة في هذه المسائل مع تكاليف كبرى. ربما يتقاسم القادة اليوم صفات أسلافهم المأسويين عشية الحرب العالمية الأولى. هم يواجهون عالماً سريع التبدّل وظاهرة عالمية لا يفهمونها حتى الآن، لذا يفضّلون العودة إلى قناعاتهم القديمة والكامنة وغير المثبتة في معظمها حول نظام العالم المناسب، بدل أن يحاولوا فهم مسار العالم على أرض الواقع. قد تكون مشكلات الندرة والتحركات الجيوسياسية التي تطلقها مرعبة، لكنها تبقى مألوفة على الأقل. تجيد الدول البارزة وقادتها ومؤسساتها خوض اللعبة السياسية التي طغت على أحداث الماضي بين القوى العظمى. في المقابل، تُعتبر مشكلات هذا العصر والحلول المطلوبة غير مألوفة ومربكة وبغيضة. لكن يبدو أن موجات الهجرة الجماعية، والأوبئة الخطرة المحتملة، وذوبان الجليد على كوكب الأرض، والتقنيات التخريبية الجديدة، ومظاهر اللامساواة والتهميش، والانقسامات العميقة، والخلافات الاجتماعية والثقافية، تُهدد الولايات المتحدة والعالم أكثر من قوى الهيمنة الأوراسية الصناعية المتوسّعة التي طغت على النصف الأول من القرن العشرين.

بعبارة أخرى، لم تكن المؤسسات، والممارسات، والنظريات، والسياسات التي نجحت في كبح الندرة في الماضي وطغت على النقاشات الأخيرة خيارات مناسبة لمعالجة مشكلات وفرة الإمدادات في هذا العصر. يجب أن يسلّط المعنيون الضوء على تكاليف الامتناع عن تحديث الفرضيات المحورية وغير المعلنة حول نظام العالم والعوامل المؤثرة عليه من خلال الاستعداد لحرب مأسوية أخيرة قد تواجهها الأرض بلا مبرر في مرحلة معيّنة. يستحق المفكرون ورجال الدول في العام 2024 الانتقاد، لأنهم ركّزوا على هوسهم بعودة المنافسة بين القوى العظمى وأصرّوا على اجترار أفكار المفكرين الجيوسياسيين، مثل ماهان وماكيندر، للسيطرة على المحيطات والأراضي التي كانت لتتلاشى وتصبح غير صالحة للعيش خلال فترة قصيرة لو لم تظهر مشكلات وفرة الإمدادات.

لا يميل البشر بطبيعتهم إلى اختيار المسارات البسيطة، ويسهل أن يخفقوا نظراً إلى المخاطر المطروحة في كل مرة. قد يطلقون مثلاً حرباً عالمية ثالثة أو يكتشفون أنهم غير مستعدين للتعامل مع جائحة أكثر خطورة من «كوفيد 19»، أو الذكاء الاصطناعي الخارج عن السيطرة، أو عوامل الأزمة المناخية الكارثية.

MISS 3