فريدريك كيلتر

الصين تختار ما يُناسبها من الأحداث التاريخية لتحقيق طموحاتها التوسّعية

22 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

سفن صينية ويابانية بالقرب من جزر سينكاكو المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي

في مياه بحر الصين الجنوبي، اشتبكت سفن خفر السواحل الصيني مع السفن الفيليبينية. وفي المجال الجوي فوق مضيق تايوان، تحدّت الطائرات الحربية الصينية المقاتلات النفاثة التايوانية. وفي وديان الهيمالايا، حاربت القوات الصينية جنوداً من الهند.

في جبهات متنوعة، تستعمل بكين قواتها المسلّحة للاستيلاء على أراضٍ غير معترف بها دولياً كجزءٍ من الصين لكن يطالب بها الحزب الشيوعي الصيني رغم كل شيء. في آب 2023، أطلقت بكين مطالباتها أمام أنظار العالم. تشمل النسخة الجديدة من خارطة الصين النموذجية أراضي تشكّل اليوم جزءاً من الهند وروسيا، بالإضافة إلى جزر مثل تايوان ومساحات شاملة في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وهي مناطق تطالب بها بروناي، وأندونيسيا، واليابان، وماليزيا، والفيليبين، وفيتنام.

غالباً ما تلجأ الصين إلى خطابات تاريخية لتبرير هذه المطالب. أعلنت بكين مثلاً أن جزر سينكاكو التي تديرها اليابان «كانت جزءاً لا يتجزأ من الصين منذ العصور القديمة». استعمل المسؤولون الصينيون الكلمات نفسها للتأكيد على حق الصين بأجزاء من ولاية أروناتشال براديش في شمال شرق الهند. كذلك، تزعم الحكومة الصينية أن سيادتها في بحر الصين الجنوبي تستند إلى خرائطها البحرية التاريخية.

لكن في بعض مراحل العصور القديمة، كانت الصين تسيطر أيضاً على دول أخرى في المنطقة (منغوليا، كوريا الشمالية، كوريا الجنوبية، فيتنام)، ومع ذلك لا تطالب بكين اليوم بأيّ منها.

من الواضح أن بكين تطبّق مقاربة انتقائية لاسترجاع الأراضي، فتستعمل فصولاً محددة من سجلات الصين التاريخية التي تناسب أهدافها وتتجاهل الأراضي الصينية السابقة إذا كانت لا تهمّها. مع مرور الوقت، تغيّرت مصالح بكين وعلاقات القوة التي تقيمها، فتراجعت أهمية جزء من تلك المطالبات واستُبدِلت بطموحات جديدة. لكن تبقى المطالبات الصينية في تايوان على حالها، إذ يرتبط مصير الجزيرة بشرعية الحزب الشيوعي الصيني وتأثير الرؤية السياسية التي يحملها الرئيس شي جينبينغ.

يعود جزء كبير من مطالبات الحزب الشيوعي الصيني إلى القرنَين التاسع عشر والعشرين، في أواخر عهد سلالة تشينغ. بعد التعرّض لضغوط ديبلوماسية وهزائم عسكرية متكررة، اضطرت عائلة تشينغ للتنازل عن الأراضي لعدد من القوى الاستعمارية الغربية وللإمبراطوريتَين الروسية واليابانية. في النهاية، انتقلت خسارة الأراضي من تلك السلالة إلى الجمهورية الصينية، ثم الحزب الشيوعي الصيني بعد الحرب الأهلية الصينية. نتيجةً لذلك، ورثت الدولة الصينية الجديدة نزاعات إقليمية هائلة مع معظم جيرانها عندما أنشأ الحزب الشيوعي الصيني جمهورية الصين الشعبية في العام 1949.

لكن رغم الإهانة التي سببتها خسائر سلالة تشينغ، أثبت الحزب الشيوعي الصيني استعداده لتقديم التنازلات والحد من مطالباته الإقليمية حين احتدمت الاضطرابات الداخلية. بعد انتفاضة التيبت في العام 1959 مثلاً، شارك الحزب الشيوعي الصيني في مفاوضات للتوصل إلى تسويات إقليمية مع البلدان التي تحدّ إقليم التيبت، بما في ذلك ميانمار، ونيبال، والهند. وعندما اجتاحت الاضطرابات منطقة الأويغور خلال الستينات والتسعينات، سعت بكين إلى إقرار تسويات إقليمية مع عدد من الدول الحدودية مثل أفغانستان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان. وبعد حملة «القفزة العظيمة للأمام» في بداية الستينات ومذبحة ساحة تيانانمن في العام 1989، سعى الحزب الشيوعي الصيني أيضاً إلى إقرار تسويات إقليمية مع منغوليا، ولاوس، وفيتنام، على أمل إرساء الأمن على حدود الصين في زمن الاضطرابات المحلية. وبدل خوض حروب لتحويل الأنظار عن المشكلات الداخلية، اتكل الحزب الشيوعي الصيني على الديبلوماسية لتسوية النزاعات على الحدود والأراضي.

لكن تغيّرت الصين كثيراً منذ ذلك الحين. في السنوات الأخيرة، تجنّب الحزب الشيوعي الصيني الفوضى السياسية المحلية التي طبعت العقود السابقة، فاستُبدِلت سيطرته الجزئية على مناطق حدودية مثل التيبت والأويغور بقبضة حديدية. وبسبب هذا التفوّق، لا ينوي الحزب الشيوعي الصيني على ما يبدو البحث عن أي حلول سلمية للنزاعات الإقليمية المتبقية.

تعليقاً على الموضوع، يقول م. تايلور فرافيل، أستاذ في علوم السياسة في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»: «زادت قوة الصين الوطنية بدرجة هائلة، فتراجعت منافع التسويات وباتت الصين تستطيع إبرام صفقات أكثر تعقيداً».

في هذا السياق، وسّع الحزب الشيوعي الصيني طموحاته المرتبطة بتحرير الأراضي. بعد اكتشاف احتياطيات نفط محتملة في محيط جزر سينكاكو وإقدام الولايات المتحدة على إعادة الجزر إلى اليابان خلال السبعينات، اتكلت بكين على سجل تاريخي للمطالبة بتلك الجزر، مع أنها اعتبرتها في السابق جزءاً من جزر ريوكيو اليابانية. في غضون ذلك، حلّت بكين وموسكو نزاعاً على جزيرة هيجيازي الواقعة على طول الحدود الشمالية الشرقية للصين في العام 2004، ومع ذلك تعتبر خارطة الصين في العام 2023 تلك الجزيرة جزءاً من نطاقها، ما يثير استياء وزارة الخارجية الروسية.

برأي كولين كوه سوي لين، مسؤول بارز في كلية «سيناثامبي راجاراتنام» للدراسات الدولية في «جامعة نانيانغ التكنولوجية»، سنغافورة، تثبت إضافة جزيرة هيجيازي إلى خارطة الصين أن بكين تتمسك بمصالح معيّنة وتنتظر الوقت المناسب لترسيخها بكل بساطة.

ذكر كوه في البث الصوتي «تشاينا غلوبال» الذي يديره «صندوق مارشال الألماني»: «نظراً إلى ظروف الحرب الراهنة في أوكرانيا وزيادة اتكال روسيا على الصين، قد تدرك بكين أنها تملك الأوراق اللازمة للتحرك لأن موسكو تحتاج إليها أكثر مما تحتاج الصين إلى روسيا».

هذا الوضع يُجدّد التساؤل حول إمكانية مراجعة النزاعات الإقليمية التي تمت تسويتها حين كان الحزب الشيوعي الصيني ضعيفاً، فتصبح مجدداً محور طموحات توسّعية إذا تغيّر ميزان القوى لصالح الصين.

برأي ستيف تسانغ، مدير المعهد الصيني في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، لا تزال نزعة الحزب الشيوعي الصيني إلى فرض مطالباته الإقليمية على روسيا محدودة حتى الآن، إذ يحتاج الرئيس شي جينبينغ إلى الدعم الروسي لتحقيق طموحاته الكبرى المرتبطة بمكانة القيادة الصينية على الساحة العالمية.

يبقى هذا الاحتمال مستبعداً، لكن حتى روسيا لن تبقى بمنأى عن تلك الطموحات إلى أجل غير مسمّى. بما أن مساحات واسعة من الأراضي الروسية في المحيط الهادئ كانت جزءاً من الصين حتى العام 1860، يظن تسانغ أن بكين قد تطالب مجدداً بالشرق الأقصى الروسي في الوقت الذي يناسبها. هذا النوع من السيطرة قد يمنح بكين قدرة غير محدودة على الاستفادة من ثروات الفحم، والخشب، والقصدير، والذهب في تلك المنطقة، تزامناً مع تقريبها جغرافياً من طموحها المرتبط بالتحول إلى قوة بارزة في القطب الشمالي.

تكثر الأدلة التاريخية التي تشير إلى سيطرة الصين سابقاً على الجزء الجنوبي الشرقي من الشرق الأقصى الروسي، لكن لا توضح السجلات التاريخية سيطرة الصين على تايوان بشكلٍ مؤكد. لم تترسخ سيطرة الصين على تايوان بما يشبه سيطرتها على البر الرئيسي إلا بعد العام 1684 على يد سلالة تشينغ، لكن بقيت السلطة المركزية ضعيفة في تلك الحقبة أيضاً. في العام 1895، تنازلت سلالة تشينغ عن تايوان لصالح الإمبراطورية اليابانية بعد الحرب الأولى بين الصين واليابان، وكانت تايوان قد تأثرت بالثقافة اليابانية منذ عقود عندما أعادت السلطة الصينية ترسيخ نفسها في العام 1945.

هذه التفاصيل لم تمنع الحزب الشيوعي الصيني من اعتبار تايوان جزءاً لا يتجزأ من الصين منذ العصور القديمة. لكن اعتبر شي جينبينغ ضمّ تايوان عنصراً أساسياً من رؤيته الرامية إلى تجديد الأمّة الصينية بدل اعتباره جزءاً من أهداف توسّعية أخرى.

لا ترتبط إعادة توحيد الصين مع تايوان بالتاريخ القديم بقدر ما تتعلق بالتحديات التي تطرحها تايوان راهناً على أهداف شي جينبينغ.

يوضح تشونغ جا إيان، أستاذ مساعِد يعلّم السياسة الخارجية الصينية في جامعة سنغافورة الوطنية: «يسعى الحزب الشيوعي الصيني إلى إنشاء قومية صينية تشدد على مظاهر الوحدة والتجانس التي تتمحور حول قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وهو يزعم في الوقت نفسه أن الشعب الصيني يتقبّل حُكم الحزب الواحد في البلد».

في المقابل، تنظّم تايوان انتخابات حرّة حيث تتنافس أحزاب سياسية متنوعة لخدمة الشعب الذي طوّر مع مرور الوقت هوية مختلفة عن البر الصيني الرئيسي. يظن تشونغ أن التجربة التايوانية تطرح تحدياً واضحاً على خطاب الحزب الشيوعي الصيني.

في الوقت نفسه، تنجذب بكين إلى فكرة السيطرة على تايوان لأن هذه الخطوة تُعتبر أساسية لتحقيق طموح القيادة الصينية المرتبط بالهيمنة البحرية على المساحات المائية التي مرّ بها نصف أساطيل الحاويات العالمية في العام 2022.

كما حصل مع تايوان، تبدو الحجج التاريخية التي يستعملها الحزب الشيوعي الصيني للمطالبة بمجموعات من الجزر في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي أضعف بكثير من مطالباته بالأراضي البرية.

برأي فرافيل، يتعلق إصرار الصين على مصادرة المساحات البحرية بالتحوّل الاستراتيجي الذي شهدته قيمة البحار المحيطة بالصين.

اليوم، تشير التقديرات إلى مرور أكثر من 21 في المئة من التجارة العالمية ببحر الصين الجنوبي. ولا تقتصر المساحات الواقعة تحت تلك المياه على الكابلات البحرية التي تنقل بيانات الإنترنت الحساسة، بل إنها تشمل أيضاً احتياطيات واسعة من النفط والغاز الطبيعي.

قد تطلق بكين مزاعم مختلفة، لكن يثبت عدم استعدادها للتنازل عن مطالباتها البحرية أن الصين تسعى إلى تحقيق طموحات قديمة وأهداف عالمية بدل محاولة التعويض عن خسائر الماضي. طالما يستعمل الحزب الشيوعي الصيني سجله التاريخي بطريقة انتقائية ومتبدّلة خدمةً لمصالحه ويبدي استعداده لدعم مطالباته بالتحركات العسكرية، سيبقى جيران الصين معرّضين للخطر.

MISS 3