توَقَّفَ الميدان، بعد إعلان وقف إطلاق النار لكن العيون تبقى شاخصة على جديّة تطبيقه وصموده. وعليه، ينصبّ همّ الساسة حالياً على إمكانية التوافق على اسم رئيس للجمهورية العتيد. بالوقت نفسه، يعدّ كلّ فريق عدّته للمواجهة لإيصال مرشّحه في حال عدم التوصّل إلى التوافق المنشود.
وبين الحرب المدمّرة والمكلفة، وبين انتخاب الرئيس الذي قد يحتاج إلى ولادة قيصرية، تتسلّل الموازنة إلى مجلس النوّاب في موعدها الدستوري.
قد يتراءى للبعض أن إرسال الحكومة للموازنة ضمن المهلة الدستورية أمر عاديّ وبريء، لا بل أكثر من ذلك بأنه إجراء قانوني طبيعي.
فمن حيث الشكل، يصحّ هذا الانطباع، أمّا من حيث المضمون واستناداً إلى طبيعة ممارسة أركان الحكم والمنظومة لإدارة الدولة منذ عقود، فيجب التوقّف والتنبّه لخطورة ما يحصل.
يتجلّى أن لجنة المال والموازنة لم تجتمع حتى الآن لدراسة الموازنة المحالة إليها من الحكومة، مع العلم أنه يتوجّب إقرارها من قبل مجلس النواب بمهلة أقصاها نهاية العام وفي أحلك الظروف نهاية شهر كانون الثاني سنداً لأحكام المادة /86/ من الدستور.
الجدير بالذكر، أنّ المهلة الإضافية الممنوحة للنوّاب، والمنوه عنها آنفاً، هي مهلة لاستكمال النقاشات وإجراء التعديلات الضرورية على الموازنة، وليست مهلة للتصويت عليها من دون أن يكون النواب على بيّنة من أرقامها ومن دون أن يتأكدوا من صحتها، ومن الخطة والجدوى الاقتصادية والمعيشية التي تتضمنها ومن دون أن يمارسوا عملهم الرقابي الفعلي عليها.
يتبدّى بما لا يقبل الشك، أن لا أحد يهتم في الوقت الحالي بموضوع الموازنة على الرغم من أهميتها. الكل يعتبر أنه ما زال لديه متّسع من الوقت، في حين أن الوقت يداهمهم وسيخرجون حتماً بحلّ "ترقيعي" كعادتهم. فمن يعوّل على أن ما زال لديه المتسع من الوقت لآخر كانون الثاني بعد أن يمرّ الاستحقاق الرئاسي، لا بدّ من التوقّف عند الأمور التالية:
أولاً، إذا صدق النواب وانتخبوا رئيساً للجمهورية في 9 كانون الثاني، سينسحب همّهم على تشكيل الحكومة وإعطاء الثقة لها، فحتماً لن يكون لديهم الوقت الكافي لدراسة الموازنة.
ثانياً، إذا انقضى شهر كانون الثاني المعطى لمجلس النواب من دون إقرار الموازنة، يمكن أن تصدر بمرسوم عن مجلس الوزراء، وعليه تكون قانونية ويتوجب تطبيق مندرجاتها وبنودها كافّة.
يستفاد مما تقدم، أنّ الحكومة أرسلت مشروع الموازنة في المهلة المحددة دستورياً، مع العلم أن أرقامها وبحسب الخبراء، لا تمّت إلى الواقع بصلة ويجب إعادة النظر بها، لا سيما بعد الحرب التي عصفت بلبنان وتبدُّل الوضع الاقتصادي والأمني والنقدي.
وعليه، يتوجّب التحقّق من أرقام الإيرادات كما النفقات من جديد، خصوصاً أنّ البنى التحتية تضررت، ومؤسسات وشركات أكانت صغيرة أو متوسطة قد دُمرت أو أقفلت، فعلى أي أساس يمكن الاعتماد على موازنة هُندست استناداً إلى أرقام وهمية غير موجودة إلّا في بال واضعيها؟
أبعد من ذلك، من المؤكّد أن هذه الموازنة ستُطيح بالمالية العامة وستقضي على ما تبقى من استقرار نقدي، لا سيما أنها لا تتضمّن أيّ خطة حقيقية أو رؤية لخروج البلد من محنته.
يكمن حلّ هذه المعضلة، إما باسترداد الحكومة لمشروع الموازنة لإعادة درسها وإدخال التعديلات عليها لتتماهى مع ما حدث من تطورات في البلد، وإما ردّها من مجلس النواب إلى الحكومة.
أياً يكن الحلّ، يتوجّب عدم إقرار مشروع الموازنة المنوّه عنها أعلاه بقانون أو بمرسوم لعدم انطباقها مع الواقع. وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، وبما أننا على عتبة عهد جديد، فلنعطِ الحكومة المستقبلية المنوي تشكيلها حقّ وضع رؤيتها لمستقبل البلد وآلية وطريقة إخراجنا من المستنقع الاقتصادي والمالي والمعيشي السيّئ الذي يعصف بنا، ولحينه يمكن الصرف على القاعدة الإثنتي عشرية.