كاتيا دبغي

الصّوت الصّارخ في ضمير العالم

نكاد لا نصدق ونعي ما نراه اليوم من عشرات الفيديوات من زنزانات الموت والذل والعار وأقبية نظام الأسد التي خرجت إلى العلن مع تحرير أصحابها، كأنّنا أمام مسلسل رعب لم تصل إليه مخيلة أعتى كتاب سيناريوات أفلام الرعب في هوليوود.


مشاهد يعجز اللسان والقلم عن وصف مدى الوحشية المريضة التي تتخطى المستوى الحيواني بأفظع غرائزه. كلنا نلنا من أنياب الأسد حصصاً من العام 1976 وحتى العام 2005 وما بعده.


وكانت لنا حصة الأسد في لبنان، حروباً وفتناً واغتيالاً وتفجيراً وفساداً وحصاراً وموتاً بطيئاً وبطشاً. كانت مخالب الأسد تنهش في جسم لبنان الطري ولم تترك مكاناً إلا وخلّفت فيه جروحاً وندبات. كلّنا اختبر تلك الحقبة الأسدية السوداء في زمن الاحتلال والانتداب السوري، وعايشنا حروب القمع والإرهاب من عصابات الأسد، ليس أقلها تهديدنا بالذبح في حصار زحلة وحرب المئة يوم وغيرها.


عشنا رعب الحواجز الأمنية وسطوة المخابرات وحكايات الغرف السوداء حيث حيكت لنا ألف مؤامرة ومؤامرة على يد النظام الغاشم. سجن الأسد في أقفاصه آلاف اللبنانيين من كل المذاهب والأطياف، حوّلهم إلى حطام أحياء في زنزانات التعذيب، أقصاهم عن عائلاتهم ووجوه أحبتهم لعقود من الزمن، حوّلهم إلى هياكل بشرية لا روح فيها ولا عقل، بل مجرّد أرقام مكدّسة في زرائب لا تصلح لإيواء حتى الحيوانات.


اليوم يخرج هؤلاء المعذبون في الأرض من محاجرهم إلى الحرية، ستلفح وجوههم القحطاء شمس السماء بعد العتمة، سيعودون إلى أحضان أحبّتهم وستكون هناك ألف حكاية وقصة سيرويها السجناء ممهورة بكثير من الدموع والقهر.


هناك كانوا "تحت سابع أرض" يتألمون، يبكون، يصرخون ولا أحد يسمعهم. تحوّل ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية إلى قضية "مفقود الأمل منها" بتكافل النظام السوري وأزلامه في لبنان.


بقيت وداد حلواني تبحث عن زوجها المفقود منذ العام ١٩٨٢ ومثلها مئات الزوجات والأمهات اللواتي حملن صور فلذات أكبادهن على صدورهن ورحن يبحثن عنهم لأكثر من جيل وعقد دون جدوى. اليوم يزهر الأمل من جديد في انتظار إما العودة أو الوداع الأخير.



الحرية ستكون موجعة لهؤلاء الذين لم يعرفوا طعمها، العالم تغير كثيراً في غيابهم عن الحياة، سيبكون في مدافن أحبتهم في الخارج، سيعانقون لأول مرة أحفادهم، سيتناولون أكلتهم المفضلة من أيادي زوجاتهم وأمهاتهم، سيتعرّفون إلى وجوه تبدّلت وأماكن تغيّرت ومدن خلعت عنها أثوابها.


لن يكون نومهم هانئاً على أسرّتهم الدافئة في بيوتهم، اذ هناك تحت الوسادة ألف كابوس عن زمن أسود عاشوه في زنزانات الأسد. هؤلاء العائدون إلى الحياة من الجحيم، من سيعيد لهم حق العمر الذي مضى، من سيثأر لهم وأي عقاب سيشفي غليلهم، أية عدالة ستنصفهم؟!



صحيح أننا نؤمن بعدالة السماء في ظل غيابها عن الأرض، ولكننا يجب أن نكون الصوت الصارخ في البرية. يجب أن يسمع العالم الذي يُسمّى بالحر أصوات الخارجين اليوم من السجون السورية الذين ليس لديهم فائض القوة ليطالبوا بالعدالة، هم حتى فقدوا طاقة العودة إلى الحياة والتأقلم مع الحرية.


فلنكن جميعاً صوتهم الصارخ في ضمير العالم في سعيهم إلى تحقيق العدالة، ولن تكون إلا عن طريق إنشاء محكمة دولية للنظر في جرائم الأسد ونظامه. وحتى يتحقق ذلك، ستبقى أمهاتنا يقرعن الصدور، يرفعن الصلوات لينال القاتل جزاءه ويكون هذا الأسد آخر الطغاة وآخر الشياطين الذين يفتحون أبواب الجحيم على الشعوب في هذه الأرض.