جوزيف حبيب

الخرائط تتغيّر عبر التاريخ

الحدود السياسية ليست مقدّسة

لطالما كانت الحدود السياسيّة للدول والكيانات على أنواعها، عرضة لحركة المدّ والجزر منذ القدم. الحدود بكلّ بساطة تتأثر حكماً بحركية التركيبة المجتمعيّة الداخليّة للدول المعنية وبمدى صلابة "العقد الاجتماعي" فيها، وبظروف الفلك الإقليمي وتحوّلاته، وبطبيعة النظام الدولي والمتغيّرات التي قد تطرأ عليه بفِعل تبدّل موازين القوى العالمية. وبالتالي، فإنّ لا شيء ثابت، دائم ونهائي. الحدود السياسيّة ليست مقدّسة والدساتير ليست منزلة ولا الأنظمة جامدة. الدول تصغر أو تكبر أو تضمحلّ عبر الوقت، والشواهد التاريخية تكاد لا تحصى.


على الرغم من أن الإيديولوجيات القوميّة الوحدوية في الشرق والغرب لم تجلب سوى الحروب والمصائب والموت، إلّا أن كثيرين ما زالوا يتمسّكون بعقائد بالية مماثلة لها أو حتى مختلفة عنها، إنما تؤدّي الأدوار التدميرية ذاتها. ما يهمّ أي شعب حرّ حول العالم هو ضمان حصوله على "مساحة حرّة" قابلة للحياة، بصرف النظر عن حجمها. فالحدود كما سبق وذكرت ليست مقدّسة، بعكس الحرّية. إن "مساحة الحرّية والأمان" هي "حجر الزاوية"، وإن كان ذلك يعني تغيير حدود دول قائمة، إن توفّرت ظروف مؤاتية، فما المشكلة؟


أين الاتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا اليوم؟ الأوّل انهار بشكل بارد نسبياً، فيما تفكّكت الثانية ورُسمت حدود الدول الناشئة عنها بالدماء والنار. لم يكن لجنوب السودان ذي الغالبيّة المسيحيّة من وجود قبل 9 تموز 2011، يوم حصل على استقلاله بعد استفتاء كانون الثاني من العام ذاته، الذي توّج مسيرة شاقة وطويلة معمّدة بالتضحيات الجسيمة. بيد أن الدولة الفتية سرعان ما غرقت في "مذبحة أهلية" لم تتعافَ حتى الآن من تداعياتها المأسوية، بعدما وضعت الحرب أوزارها بحذر.


الحرب الأهلية التي زلزلت جنوب السودان بعد تحرّره، لا تلغي إطلاقاً حق شعب أو شعوب جنوب السودان في تقرير المصير، الذي سبق وتقاطع مع مصلحة دولية، وتحديداً أميركية، عبّدت الطريق أمام ولادة جنوب السودان. ولم ينعم "السودان الموحّد" أساساً بأي سلام، إذ كان غارقاً بـ "مطاحن أهلية"، خصوصاً في الجنوب ودارفور. وما زال السودان يُعيد اجترار أخطائه التاريخية وينزلق في مستنقعات التقاتل الأهلي المريع، الذي جدّد اتخاذ شكل "الإبادة الجماعية" في دارفور. فما الحلّ للحروب المتناسلة في السودان وغيره من الدول التافهة؟


الأكيد أن حكماً مركزياً قمعياً آخر لن يُخرج البلاد من كبوتها، بل سيُعمّقها، بينما تؤمّن الفدرالية في المقابل استقراراً مستداماً، إذا ما طُبّقت وفق حقيقة مقتضياتها. كما يُمكن الذهاب في اتجاه الحلول الأكثر جذرية، إن توفّرت إرادة دولية لتحقيق ذلك. وأعني هنا تقسيم السودان أو أي دولة أخرى مفكّكة الأوصال، إلى دول عديدة، انطلاقاً من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، رغم ألّا مشروعية دولية لتغيير الحدود السياسية في الشرق الأوسط، أقلّه حتى الساعة. وفي حديثنا عن حق تقرير المصير، لا نستطيع في المنطقة إلّا طرح السؤال التالي: ألا يحق للشعب الكردي المنتشر بين تركيا وسوريا والعراق وإيران، تقرير مصيره؟


رياح المصالح الكبرى تجري في كثير من الأحيان بعكس ما تشتهي سفن شعوب تواجدت فوق "فوالق" جيوسياسية خطرة، تماماً كما حصل مع الكرد. لكن هذا لا يعني أن القضية الكردية لم تعُد مسألة شائكة وأن نضال الشعب الكردي انتهى إلى غير رجعة، بل على العكس. وهذه المعضلة يُعاني منها أيضاً البلوش المتفرّقون ما بين إيران وباكستان وأفغانستان، فضلاً عن آلاف الطوائف الإثنية والدينية واللغوية، وتحديداً في آسيا وأفريقيا، التي تدفع ضريبة "لعنة الجغرافيا" الباهظة.


من ينظر إلى تغيّر الخريطة السياسية للقارة الأوروبّية عبر الزمن، يُدرك مدى هشاشة الحدود التي تتأثر بالتحوّلات الجيوديموغرافية، وبتداخل المعطيات والعوامل المحلّية والإقليمية والدولية المتشعّبة. فحدود الدول الأوروبّية تغيّرت عبر التاريخ، فاتسعت مساحة دول حيناً وانحسرت أحياناً أخرى، وتقسّمت دول وولدت دول واختفت دول انتهت صلاحية خدمتها. وربّما يطرأ تعديل مستقبلاً على الحدود بين روسيا وأوكرانيا ليُشكّل، إلى جانب "ضمانات أمنية" ضرورية، مدخلاً لوضع حدّ لـ "الغزو القيصري".


العقبة لا تكمن فقط بعدم وجود قرار دولي بحق الشعوب في تقرير مصيرها، إنما بعقلية إلغائية - عنصرية متزمّتة سائدة، خصوصاً في الشرق الأوسط، تريد "صهر" الطوائف المتمايزة كما لو كانت بمثابة معادن، في "قالب واحد"، أو الأخطر عندما تصمّم على "إغراق" الأقليات في "محيط" الأكثرية وفرض تاريخ مؤدلج موحّد وتعميم ما هو حلال وما هو حرام. وما يُثير "الغثيان الفكري"، استماتة "مناوئي الاستعمار" وشاتمي "سايكس بيكو"، بالدفاع عن الحدود الوطنية التي رسمها الاتفاق الآنف الذكر، وحتى رفض أي طرح لامركزي للدول المأزومة والفاشلة بشكل تلقائي وحازم.


المطلوب أن يتحرّر الإنسان من "صناديق" الإيديولوجيا الضيّقة ويحترم "الإنسان الآخر" ويعترف به كما هو قائم بذاته وليس كما يُريد له أن يكون. لو يحترم كلّ شعب مبدأ حق الشعوب الأخرى في تقرير مصيرها، لجنّب البشرية حروباً مفجعة، بيد أن الكلمة الحاسمة تبقى لمصالح ومشاريع اللاعبين بمختلف "أوزانهم"، وعندما تتضارب مصالح الشعوب ورؤاها على الأرض والمقدّسات والموارد والنفوذ... تفتح أبواب "المسالخ البشرية" على مصراعيها!