"من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج"… لم نسمعها بصوت فيروز، بل بخفقات قلبك، سيدي الرئيس، يوم استقبالك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر بعبدا.
سيدي الرئيس، حتماً تعلم كم شكّل انتخابك فسحة أمل ونَفَس أوكسجين للشعب اللبناني الذي عانى ولا يزال من ويلات، كانت لتهدّ جبالاً بحجم إيفريست، لو وُضعت على كاهل أي شعب آخر غير الشعب اللبناني.
هذا الشعب الذي لطالما أقنع نفسه بأنه شعب مقاوم لا يستسلم ولا ينهزم ويرى بصيص النور في آخر النفق و "يا جبل ما يهزّك ريح"، تأمّل خيراً بانتخابك سيدي الرئيس.
هذا الشعب الذي تحدّى ووقف بعد كل سقوط، رسم الابتسامة بعد كل بحر دموع، ومدّ يد العون، كاسمك، لأخيه اللبناني عندما تخلّفت الدولة عن القيام بأدنى واجباتها، تفاءل خيراً بانتخابك، سيدي الرئيس.
هذا الشعب الذي نجح وحقّق ورفع اسم الوطن في كافة المحافل الدولية، رغم كل الإحباطات الداخلية، تنفَّس الصعداء بانتخابك، سيدي الرئيس.
نعلم، كما تعلم، أنّ المسؤوليات الملقاة على كاهلك، ثقيلة، وأنّ الهمّ الاقتصادي والسياسي والأمني والإنمائي والاجتماعي والصحي والتعليمي أولوية بالنسبة لك ولنا. ولكن… نعم، هناك ولكن. هناك فسحة أمل لطالما تمسّك بها اللبنانيّ وشكّلت متنفّساً له وسط كل ثاني أوكسيد الكربون، فلا تقطعها عنه سيدي الرئيس.
هناك شعاع نور لطالما أشرق علينا وأضاء عتمة ليلنا الطويل، فلا تطفئه سيدي الرئيس. هناك نجاحات لاحت ولا تزال تلوح في وطن اعتاد طمس طاقاته، تهجير مواهبه ومحاربة مبدعيه، فلا تهملها سيدي الرئيس.
هناك الفن، فلا تؤجّله سيدي الرئيس. الفن والثقافة وفيروز وجورج شحادة وأمين معلوف وغبريال يارد الذين ذكرتهم في خطابك الترحيبي بالرئيس الفرنسي، جعلونا نشعر أنّ الفنّ لن يكون ملفاً ثانوياً في عهدك. الفن لا يحتمل أن نركنه على جنب سيّدي الرئيس، لأنه أكثر فاعلية من أقوى خطاب سياسي وأعظم وزارة خارجية في إيصال الرسالة، وتحفيز الشعوب، بدليل أنك استشهدت بمقطع من أغنية فيروز .
سيدي الرئيس، "بحبّك يا لبنان" و "تعلى وتتعمر يا دار" بصوتَيْ سفيرتنا إلى النجوم وصبّوحتنا، أهم وأفعل وأقوى وقعاً من كل ما قاله وسيقوله سفراء لبنان والوزراء والنواب وحتى الرؤساء، مع كامل الاحترام.
عندما نسمع "لبنان يا قطعة سما"، نبقى ونستمرّ في وطن الأرز، رغم تحوّله قطعة جحيم بفضل سياسات خاطئة. "راجع راجع يتعمر راجع لبنان" أغنية تحوّلت نشيدنا الوطني الذي نصدّقه ونؤمن أنه سيتحقق مهما طال الزمن، على عكس وعود السياسيين الذين لطالما وعدوا وقالوا وخطبوا، فذهبت وعودهم أدراج الريح.
وصول السينما اللبنانية إلى مهرجانات كانّ وبرلين والبندقية وخصوصاً الأوسكار، هو انتصار حقيقي وفعلي ومثبت عالمياً للبنان، وليس مجرّد فيلم "تجليطي" ومسلسلات تراجيدية ومسرحيات عبثيّة حاولوا ولا يزالون إقناعنا بها.
الفن والثقافة، سيدي الرئيس، هما الحقيبة السيادية التي ينبغي أن يتمنّى الحصول عليها كلّ من يؤمن فعلاً أنّ لبنان يبقى ويستمر ويلمع بفضل فنّه وكتّابه ومثقفيه، وموسيقاه وأغنياته وأفلامه ومسلسلاته ومهرجاناته، التي طالما كانت الأوكسجين الوحيد للشعب، الفرح الوحيد للشعب، الفخر الوحيد للشعب.
سيدي الرئيس، في وسط ازدحام جدول أعمالك، رجاءً لا تهمل الفنّ. أعطِه الضوء الأخضر وجزءاً من الميزانية الضرورية حتى يتمكّن المبدعون من تنفيذ أحلامهم، وخذ منهم ما يُدهش العالم.
لقد تمكّن الفن اللبناني والسينما تحديداً من الوقوف والمواجهة والاستمرار والتفوّق، وتحقيق الجوائز العربية والعالمية، بفضل مبادرات شخصية وصناديق دعم خارجية وعربية (آفاق مثلاً) مع غياب تام لصناديق دعم لبنانية، على غرار صناديق دعم السينما في كلّ من السعودية (صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي) والمغرب وتونس ومصر.
للأسف وزارة الثقافة في لبنان متوقفة منذ 5 أعوام عن تقديم الدعم المادي الخجول جدّاً الذي كانت تمنحه في السابق، و "الهيئة اللبنانية للأفلام" التي تأسّست في نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، لم يتمّ وضع آلية لتمويلها وعملها حتى اليوم. المبادرات اللبنانية الداعمة للسينما جدّ خجولة ومعنوية، وتقتصر على ورش عمل مثل "مؤسسة سينما لبنان"، إضافةًَ إلى "مجتمع بيروت السينمائي" الذي يدعم الأفلام القصيرة بمبلغ متواضع وعلى قدر الإمكانات.
بدورها الدراما اللبنانية التلفزيونية، التي لطالما كانت الأولى والرائدة في العالم العربي، تناضل منذ سنوات مع شركات إنتاج صغيرة لا تقوى على المنافسة الخارجية، وشركات لبنانية كبيرة تعاني وتصارع من أجل فرض الدراما اللبنانية البحتة في سوق عربية تشهد اجتياحاً للدراما المشتركة ولممثلين عرب على حساب الممثل اللبناني.
فهل تتخيّل، سيدي الرئيس، ماذا يمكن أن نحقّق على صعيد الفنّ في حال وضعت الدولة يدها وبعضاً من إمكاناتها في يد من يسعى لإبقاء لبنان منارة إشعاع فنيّ وثقافيّ؟ عندها سنردّد كلّنا مع جبران خليل جبران وفيروزتنا، مع بعض التعديل: أعطني الدعم وغنِّ، فالفن سرّ الوجود، وحده الفنّ يبقى بعد أن يفنى الوجود.