د. هشام حمدان

آه لو يقرأون الإرشادات الرسولية!

15 كانون الثاني 2021

02 : 00

الرئيس لم يحترم قسمه

يستوقفني بحزن وأسف، دفق التعليقات الكبير الذي يعبّر عن فقدان الثقة بهذا البلد، والرغبة الشديدة بالهجرة. وكذلك تعليقات كانت في الماضي القريب من المحّرمات. يحزنني جداً أن نجد مواطنين يحذّرون كثيراً من كلّ من يشهر شعارات وطنية. فالإصرار على الشخصنة وغلبة ملكة الأنا، والتكرار الممجوج لشعارات مثل "نريد القضاء المستقلّ ومكافحة الفساد ووو..." الذي لم يؤد إلى أيّ نتيجة، أو رؤية مشتركة بديلة للواقع القائم، دفعت أصحاب السلطة إلى الاستزادة شراسة، ودفعت المواطن الطيب إمّا إلى الإنكفاء في بيته والعودة إلى بيئته، أو الحديث عن التقسيم والفدرالية، أو الهجرة.

في هذا الزمن، ينشط العدوّ للمزيد من تفتيتنا داخلياً وقومياً. وتعريفي للعدوّ لا ينطلق من أيّ بعد استراتيجي بل، وبكلّ بساطة، ينطلق من حقيقة الممارسة التي يقوم بها كلّ من يريد شرّاً بهذا الوطن. العدوّ بيننا، كما هو جارنا. العدوّ هو الذي يريد وضع يده على مقدراتنا، وينهب خيراتنا وأموالنا. ليس له هويّة حتى ولو كان يحمل هوية لبنانية. هذا العدوّ هو الذي يرمي الشائعات، ويتبارى بدفع الشعارات التي تخدمه، ثم يقف متفرّجاً وضاحكاً على كثرة التحاليل والشروحات، وهجرة المواطن.

أحال لي أحد الأصدقاء بياناً يتمّ تعميمه ويطالب السريان والأمازيغ والأقباط بالكفّ عن الإستعراب، والعودة إلى رشدهم، وأحضان هوياتهم الأصيلة قبل فوات الأوان، لأنّ الفكر العروبي الذي خدعهم وضحك على عقولهم، أفلس وانتهت صلاحيته.

هذا الكلام يقابله لدينا شعارات "شيعة شيعة" ودرزي وماروني وسنّي ووو... ربّما أنّ الوعي القائم في أعماق الإنسان لدينا، ما زال يمنع لبنان من أن يتحوّل دويلات تحت عنوان الفدرالية. كان من الممكن أن أصفّق لشعار "أيها السرياني أنت سوري أولاً"، وللأمازيغ "أنت مغربي أولاً"، وللأقباط "أنتم مصريون أولاً. لكن المطلوب الحقيقي من ترويج هذا الكلام، ليس التصويب على العروبة. فالعروبة بمفهومها الإيديولوجي، لم تعد قائمة، بل صارت منسجمة أكثر مع مفهوم العولمة، المستند إلى المصالح الإقتصادية، والترابط الحضاري والثقافي والإنساني. تماماً كما هم الأوروبيون الذين يلتحمون في بوتقة الإتحاد الأوروبي حماية لمصالحهم المشتركة.

من جهة أخرى، قرأنا تلك "الآيات الممجوجة" التي يكرّرها السيد جبران باسيل بالنسبة إلى حماية المسيحيين في لبنان، وربّما في الشرق أيضاً، والتي خدعت البعض. كلام الجنرال الساعي في حينه، إلى القداسة بين المسيحيين، ذواها حلمه للرئاسة، وبدّلها كليّاً تبوؤه ذلك الموقع. فإلى السيد باسيل، وأيضاً إلى فخامة رئيس الجمهورية، وإلى كل جبراني أودّ أن أقول "إقرأوا الإرشادات الرسولية". جاءنا أكثر من بابا يحمل لنا إرشادات رسولية، فرأينا في عهد فخامته، هجرة متواصلة للسفراء بقناعة أن لبنان تغيّر، وقياداته بلا مسؤولية".

منذ حوالى السنة، خرج غبطة البطريرك الراعي يقول: "فكّوا أسر الرئاسة". فكتبت طالباً منه أن يطلب أولاً من الرئيس فكّ أسر الرئاسة. الرئيس هو الذي أسرها عندما جعلها مع صهره الشاب، فئوية، مستظلّة بالميليشيات العسكرية التي تحارب العالم.

قلنا لغبطته قبل أيام، "الوطن قبل طائفة الرئيس". فخطأ الرئيس لا يدمّر الوطن فحسب، بل الطائفة ذاتها. زاره غبطته فلم يرشح عن اللقاء إلا معلومات تؤكّد ما نعرفه عن غبطته من حرص على المقامات. خرج ليدين الحملات الإعلامية التي يتعرّض لها رئيس الجمهورية، معرباً عن رفضه لها، معتبراً أنه كمواطن وكرجل دين، يريد الإحترام للسلطات القائمة، فهذا نابع من تكوين تفكيره وتربيته وروحانيته، لأنّه يحترم كلّ حامل سلطة. وشرح موضحاً كلامه قائلاً: "اذا كان لديّ أي أمر تجاه حامل سلطة، عليّ أن أصارحه به. لكن ليس علي أن آتي في الإعلام لأتعرّض لكرامة صاحب السلطة، فكيف اذا كان رئيس الجمهورية؟ اذا ما كان لديك أيّ أمر، تفضّل وقله له، لكن على الإحترام أن يبقى فوق أيّ اعتبار".

نعم يا صاحب الغبطة، نحن نعلم عمق التربية الإنسانية في أعماقك، ونؤيد بقوّة مطلبك بعدم التعرّض للكرامات. ولكنّنا نذكرك وبكلّ احترام، بأنّ صاحب الفخامة لم يحترم هو ايضاً كرامات الآخرين. ألم يشتمهم ورمى كلاماً جارحاً بحقّهم؟ فإذا كان فخامته قد بدأ باستخدام العبارات غير اللائقة وشتم الآخرين، فلا شكّ أنّنا نتوقّع أن يتعاطى الآخرون معه بهذه الطريقة.

بالطبع أنا لا أبرّر أيّ كلام جارح. فأنا أؤمن ايضاً بروحانياتي، بأنّ احترام الكرامة يبدأ من طريقة التعامل مع الآخر. هكذا علّمتنا كلّ الإرشادات الروحية والأخلاقية. أنا لا أقبل أبداً أن أقوم بشتم أي إنسان ولو شتمني. لا لشيء إلا لأنّني أحترم نفسي. ولأنّي أحترم نفسي أحترم المقامات وليس فقط المقامات السياسية، بل كلّ المقامات. فالإنسان بالنسبة لي، ليس في مقامه بل في قيمته بما يمثّل كصورة لله على الأرض.

أمّا بالنسبة إلى موقع فخامته كرئيس للجمهورية، فأنا أضيف إلى كلام غبطته بأنّ توجيه الانتقاد إلى فخامته يجب أن يحمل أيضاً أسلوباً مؤدّباً. فهو رمز السيادة. لذلك قمت، يوم كنت سفيراً للبنان في المكسيك، بمراسلة معالي وزير الخارجية جبران باسيل، طالباً إليه أن يحيل كلام "حزب الله" ضدّ الرئيس ميشال سليمان، إلى النيابة العامة، لأنّه وصفه في حينه "بأنّه بحاجة لعناية"، أي أنه فاقد لرشده. هذا الكلام أخطر وأكبر من الشتيمة التي يطلقها مواطن في الشارع. لماذا لم يحترم معاليه في حينه موقع الرئاسة سواء كونها "مسيحية مارونية بطائفتها، أو سيادية بمكانتها ومقامها"؟ نعم، الوطن قبل المقام. والقائم على المقام حامل أمانة لا يجوز أن يخونها. ولأنّنا نحترم المقام، ولكنّنا نقدّس الوطن أولاً، لا نقبل ان نصمت. فعلى رئيس الجمهورية أن يستقيل، ويجب أن تتم إحالته إلى المحاكمة لانتهاكه الدستور. الرئيس لم يحترم قسمه، ولم يحترم الأمانة التي يحملها، وترك لبنان أسيراً بيد الميليشيا المسلّحة التي وضعت لبنان في حروب مع العالم، خارج أحكام القانون الدولي. وأكثر، فإننا نسأل فخامته، كيف يقبل حزباً يطالب بتحويل لبنان دولة إسلامية، ويعلن صراحة أنه يتبنّى مبدأ ولاية الفقيه، ليس في الدين فحسب، بل في المواقف السياسية أيضاً، والتي تخرج عن مبدأ اساسي في نظام الأمم المتّحدة التي تنضوي إيران في عضويتها، وهو عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى؟

قال غبطة البطريرك: "إنّنا نعيش في بيئة مشرقيّة على كفّ عفريت، فهل يمكن للبنان أن يغيب عنها؟ وإذا لم يكن هناك من حلول، فلا يمكن له أن يبقى رابطاً نفسه هنا وهنالك". وهو أكّد "أنّه لا يمكن للبنان أن يعيش هكذا، فيما هو يخسر مؤسّساته، الواحدة تلو الأخرى، ويعاني من الشلل".

نعم، غبطة البطريرك محقّ، ولقد ناشدناه ورجوناه أن يذهب إلى الأمم المتّحدة لمخاطبة العالم، وأن يحمل كلام البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر، والبابا فرنسيس وغيرهم، إلى المجتمع الدولي. فمتى يفعل ذلك؟ لقد خاطب السياسيون اللبنانيون العالم مراراً طالبين الحياد للبنان، لكنّه لم يستجب. أما عندما خاطبه غبطته، قبِل الكلام. هذا هو سفير بريطانيا تلك الدولة العظمى والعضو الدائم في مجلس الأمن، يبعث إلينا برسالة واضحة داعمة للحياد.

إلى فخامة الرئيس والسيد باسيل نقول رجاء إقرأوا الإرشادات الرسوليّة. وإلى غبطة البطريرك نكرّر مناشدين: "إحمل لبنان إلى العالم".