فريديريك روسيل

تاريخ الكتابة حول العالم

19 كانون الثاني 2021

المصدر: Libération

02 : 00

في نص موضوعي وحيوي في آن، تتناول سيلفيا فيرارا مسار اختراع أول أشكال الكتابة حول العالم، بما يتجاوز حدود الكتابة المسمارية السومرية، وتذكر جميع الإشارات التي تحتاج إلى الاستكشاف حتى الآن.

انتشر خبر جديد ومثير في الآونة الأخيرة لأنه قد يتعلق بأهم اختراع في العالم. في نهاية تشرين الثاني الماضي، سمعنا أن عالِم الآثار فرانسوا ديسيه (38 عاماً) نجح في فك شيفرة اللغة العيلامية الخطية التي كانت تُستعمل في إيران منذ 4400 سنة. كان هذا النظام من الكتابة معروفاً منذ حقبة نبش القبور في الطين المحروق في العام 1901 في موقع السوس الإيراني، لكن لم يتم استكشافه بالكامل حتى الآن. من خلال فك تشفير المزهريات الجنائزية الفضية التي كانت تعود إلى جامع تُحَف في لندن، استنتج الباحث الفرنسي، الذي يعمل في مختبر "أرشي أوريان" في مدينة "ليون" الفرنسية ويُعلّم منذ العام 2014 في جامعة طهران، أن تكرار الدلالات المقترنة يشير إلى أسماء علم تعود إلى اثنَين من أصحاب السلطة (شيلهاها وإيبرتي الثاني) وإلهة اسمها نابيريشا.

فكّ الباحث شيفرة هذه الكتابة الصوتية بعد عشر سنوات من الدراسة وتسارعت جهوده هذه خلال الحجر المنزلي في الفترة الأخيرة. يوضح ديسيه: "بفضل هذه الأبحاث، أستطيع أن أؤكد من الآن فصاعداً أن الكتابة لم تظهر للمرة الأولى في بلاد ما بين النهرين وحدها، بل ظهرت كتابتان في الوقت نفسه في منطقتَين مختلفتَين". لا تشتق الكتابة الثانية من الأولى (أي أوراق الكتابة المسمارية) ولم تظهر بعدها. تتّضح الجوانب المدهشة في عملية اختراع الكتابة بفضل هذا الاكتشاف الذي سيُمهّد على الأرجح لطرح منشور علمي هذه السنة وإطلاق نقاشات عدة بين الخبراء. وقد طرحت سيلفيا فيرارا، أستاذة في فقه اللغة الميسينية في جامعة بولونيا، نصاً حيوياً وعلمياً عن حالة المعارف ومختلف خطوات فك التشفير وأحداث تاريخية آسرة.





من دون تأثير خارجي

خلال فترة طويلة، ظن الكثيرون أن بلاد ما بين النهرين، أي العراق في الحقبة المعاصرة، كانت المهد العالمي للكتابة منذ أكثر من أربعة آلاف سنة. ربما اخترع السومريون هذه "الشرارة" كما تقول فيرارا، لكنها ظهرت أيضاً في الصين ومصر وأميركا الوسطى في حقبات مختلفة وبالطريقة نفسها دوماً. تشير النقوش في منطقة وسط أميركا (بدأ استكشافها تدريجاً اعتباراً من السبعينات) إلى ظهور هذا الاختراع من دون تأثير خارجي. ربما اخترعت مصر بدورها نظاماً للكتابة من العدم، حتى قبل ظهور الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين. في العام 1988، اكتشف عالِم آثار ألماني قبراً ضخماً في موقع "أبيدوس" وعثر على آثار أول محاولة كتابة من العام 3220 قبل الميلاد: إنه نظام هيروغليفي بدائي يشير إلى عصر ما قبل الأسرات. فسّر غونتر ديرير، الذي توفي في العام 2019، تفاصيل اكتشافه في الفيلم الوثائقي المشوّق L’Odyssée de l’écriture (ملحمة الكتابة). كذلك اخترعت الصين، ولو في مرحلة لاحقة، نظاماً جديداً بالكامل في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد: إنها الكتابة الأكثر استدامة واستقراراً في التاريخ. نحن أمام أربعة اختراعات شبه مؤكدة اليوم إذاً. نتيجةً لذلك، أصبح الاحتمال المرتبط باختراع الكتابة في مناسبات متكررة من تاريخ البشرية وارداً جداً. لا شك في أن فيرارا المتخصصة بتاريخ اختراع الكتابة المدهش ستهتم بهذا الاكتشاف الأخير عن اللغة العيلامية الخطية.

لا تزال الاكتشافات المرتقبة كثيرة. تبدأ فيرارا نصّها من هذه النقطة تحديداً وكأنها تروي قصة واضحة المعالم، كما تفعل خلال الحصص أمام طلابها. هي مسؤولة أيضاً عن برنامج البحث الأوروبي Inscribe ("اختراع الكتابات وبداياتها"). يتعلق أحد الأهداف بفهم عدد اختراعات الكتابة في تاريخ العالم لأن أحداً لم يكن يعرف هذا العدد بدقة. ويعمل فريقها على استكشاف كتابات بحر إيجه ووادي السند وجزيرة القيامة. كما تنتشر حول العالم اليوم حوالى 12 كتابة قديمة لا يجيد أحد قراءتها وفهمها. ويشتق نصفها تقريباً من الجزر (قبرص، كريت، جزيرة القيامة).





تذكر سيلفيا فيرارا أن الكتابات الخاصة بالجزر لا تشكّل قصص نجاح لأن قوة تحمّلها كانت عابرة ولم تنتشر على نطاق واسع. ففي العام 1952، استعمل البريطاني مايكل فانتريس التحليل الإحصائي للعلامات البيانية لفك شيفرة "الخط ب" الذي يسجّل لهجة يونانية قديمة جداً تعود إلى أكثر من 3 آلاف سنة. لكن تتساءل فيرارا: "ما العمل مع كتابات بحر إيجه الأخرى التي لم يتم استكشافها بعد في جزيرة كريت أو الكتابة الهيروغليفية هناك أو "الخط أ"؟ ما هي فرص أن نسير على خطى مايكل فانتريس ونحقق النتائج المنشودة"؟ لا تزال هذه الألغاز المشوّقة مستمرة بانتظار أن ينجح باحث أو فريق بحثي في كشف السر.

تقول فيرارا إن الكتابة لم تنجم عن جهود الدول لإدارة شؤونها البيروقراطية بكل بساطة، على غرار ما حصل مع الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين، بل إنها شكلت علامات محفورة على صفائح الطين لتسجيل المعاملات والصفقات. أكبر خطأ هو أن تصبح البيروقراطية هدفاً بحد ذاته والغاية الأولى والأخيرة والدافع النهائي للكتابة. تصمد الإمبراطوريات والحضارات والثقافات بلا كتابة أو تظهر الكتابات أحياناً من دون سابق إنذار ومن دون أن تنتشر بين المناطق. وغالباً ما ترتبط فكرة الضرورة باختراع الكتابة، لكن تقترح فيرارا اعتبارها عملية حرة وعفوية وطبيعية في جوهرها كونها تعطي أسماءً لجميع المظاهر التي تحيط بنا وتحافظ عليها.


لوح حجري منقوش باللغة العيلامية في متحف اللوفر


القيمة الدلالية


تنقسم عملية الابتكار هذه إلى أجزاء عدة، بدءاً من شرارة اللعب على الكلمات وصولاً إلى اختراع مخزون كامل من الإشارات التي يتم تناقلها من جيل إلى آخر. تبرز في كل مرة مجموعة قوية من الثوابت، مثل استعمال الأيقونات. تبدأ الكتابة بالصور والقوائم التي تشمل عناصر تتخذ شكل أيقونات يمكن التعرّف عليها (مثل سنبلة القمح أو سمكة أو حصان...). في جميع الكتابات التي تم اختراعها، كانت الدلالة التي تحملها الإشارات المستعملة قوية جداً في البداية. حتى أننا نستطيع اعتبار تلك الأيقونات البيانية أول نقطة انطلاق حقيقية لاختراع الكتابة. تكمن آلية أساسية أخرى في المقاطع الصوتية والتماثل الصوتي، أي الطريقة التي تعكس فيها الصور صوتاً معيناً. ترتكز جميع الكتابات المُخترَعة من العدم إذاً على شكلٍ من الأحجيات، فتستعمل إشارات أو تسجيلات موجودة أصلاً وتعطيها قيمة دلالية معينة لتجسيد المفاهيم المقصودة.

تَصِف الحلقة الأولى من مسلسل ديفيد سينغتون على قناة "آرتي" هذه الآلية على النحو التالي: "يجعلنا لغز الكتابات الأولى وأصلها نفهم جانباً مهماً من هذه العملية: الكتابة في المقام الأول هي اكتشاف بحد ذاته، وهي أشبه بتوهّج السكون الذي يضيء تدريجاً، أو بحث فطري، أو لعبة عفوية تهدف إلى توسيع المعاني المحتملة". قد تكون الأبجدية ممارسة مدهشة أو اختراعاً مهماً، لكنها تعجّ بالصور. وتظن سيلفيا فيرارا، العالِمة في فقه اللغة، أن اختراع الرموز التعبيرية في الحقبة المعاصرة طريقة للتأكيد على حاجتنا إلى الصور أو رؤية الوجوه والتعبير عن العواطف وتلقّيها من الآخرين. في النهاية، تضيف فيرارا: "من الواضح أننا ننجذب بسهولة إلى هذا النوع من الأيقونات لأنها قوة مؤثرة، وهي عنصر دائم في علاقتنا مع الكتابة".


MISS 3