محمد عبيد

الإستحقاقات الدستورية والإنتظار المميت!

12 أيار 2021

02 : 00

محمد عبيد

كان من المفترض أن تضع إنتفاضة 17 تشرين منظومة السلطة الفاسدة والفاشلة بين خيارين، الأول: التسليم الهادئ ومن ثم الانسحاب التدريجي من مواقعها، والثاني: الإذعان لمطالب المنتفضين لجهة تغيير سلوكها في إدارة الدولة وبالتالي تطبيق برنامج إصلاح إنقاذي يحد من الخسائر الاقتصادية والمالية التي صارت أمراً واقعاً.

لكن الذي حصل هو عكس ذلك، فقد نجحت هذه المنظومة المتأصلة بالفساد وفي الإلتفاف على كل محاولات معظم اللبنانيين للخلاص منها، نجحت بمحاصرة اللبنانيين بين واقعين لا مفر من واحد منهما: الأول، الإرتطام الناعم بقعر الهاوية، والثاني، الإرتطام الحاد بالقعر ذاته أو ما اصطلح على تسميته بالذهاب الى جهنم!

يعني أن الإعتقاد بإمكانية الخلاص من هذه المنظومة بلا أكلاف جوهرية تطال حياة اللبنانيين إضافة الى معنى وجود لبنان وفرادته ودوره هو أمر دونه إسقاط ما تبقى من الهيكل على رؤوس اللبنانيين، باستثناء رؤوس أركان هذه المنظومة وعائلاتهم وأبنائهم وأصهارهم وحاشياتهم القادرين على تدبر أمورهم في الخارج في حال ساءت أمورهم في الداخل الى حد اضطرارهم الى ترك البلد بعدما نهبوه وأذلوا أهله. لا شك أن منظومة الفاسدين والفاشلين في السلطة إتفقت مجتمعة بالتفاهم أم بتقاطع المصالح على الإنتقام من اللبنانيين الذين قرروا من دون مقدمات تحذيرية الإنتفاض ضدها، والأهم إسقاط توصيف «الألوهية» الطائفية والمذهبية عن مسؤولي السلطة، وهو التوصيف الذي لطالما كان حاجزاً أمام أي نوع من المحاسبة والمساءلة القضائية أو الإعلامية لأي منهم خصوصاً في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة.

لذلك هي مواجهة ليست سهلة، خصوصاً وأن التدخل الخارجي أميركياً كان أم فرنسياً - أوروبياً أم مصرياً.. إلخ، إعتمد الآليات التقليدية التي ابتدعتها هذه المنظومة في صياغة المقاربات المفترضة لإجتراح حلول سياسية سطحية لأزمة إنهيار مدمر. وإلا ما معنى أن يرفض المسؤولون اللبنانيون على المستويين الرئاسي والحكومي والنيابي أن يلتقوا هنا لبحث شأنٍ وطني من المفترض أنه لبناني خالص، بدل أن ينتظروا مبادرات التدخل الخارجي وزيارات المسؤولين الخارجيين لسؤال خاطرهم والوقوف على هواجسهم وإبتداع الحلول التي ترضيهم!

الجواب واضح، هو استدراج للخارج لإعادة إنتاجهم والقبول باستمرارهم أو بتكريس ورثتهم في مواقعهم، كثمن حتمي مقابل إبداء المرونة والتنازل عن «حقوقهم» المكتسبة في السلطة لصالح التسوية التي من المفترض أن تقوم على التعادل في الأرباح والخسائر بينهم.

أسلوب الإبتزاز هذا، حاول ثلاثي الحريرية السياسية إعتماده (الحريري- بري - جنبلاط) أثناء مرحلة الوجود السوري، لكن ذلك لم ينجح مع الراعي السوري الذي كان يُمسك برقاب جميع المسؤولين اللبنانيين من خلال وضع يده على ملفات الفساد والهدر في مؤسسات الدولة وإداراتها، وهو أسلوب حاول النائب جبران باسيل إستنساخه سابقاً ومؤخراً في معرض محاولاته الإستحواذ على ملفي الحكومة وترسيم الحدود البحرية.

والمفارقة الأسوأ أن الكثير من اللبنانيين صاروا يعتقدون أن التدخل الخارجي من خلال فرض العقوبات أو عبر الزيارات الى لبنان أو الإستدعاءات لبعض المسؤولين اللبنانيين الى عواصم معنية يمكن أن يحمل حلولاً فعلية تقيهم شر الإرتطام بشكليه الذي وعِدوا به.

إن الوقائع التي يعيشها لبنان اليوم من حيث إشتداد أزماته السياسية والإقتصادية والإجتماعية الى حد الإنهيار الكامل الذي سيقود حكماً لانفجارٍ غير معلوم النتائج، تشبه كثيراً الوقائع، وإن بأشكال أخرى، كالتي عاشها قبيل التوافق الدولي - الإقليمي حول صياغة مشروع تعديل للنظام السياسي اللبناني في الطائف. في حالة الوقائع الثانية، إنحنى بعض الأحزاب والميليشيات التي كانت وقود تلك المرحلة أمام رياح هذا المشروع، في حين تمرد البعض الآخر فكان الثمن نفياً أو سَجناً أو تهميشاً، غير أن أحداً من المنحنين والمتمردين لم يتمكن من وقف تنفيذ هذا التوافق الدولي - الإقليمي وإرتداداته الداخلية، التي أفرزت منظومة السلطة الحالية والتي جمعت بينهما في الـ 15 سنة الأخيرة من عمر نظام الطائف.

أما في حالة الوقائع الأولى، فإن التدخلات الخارجية كافة لم تنضج الى مستوى يسمح بإعادة تكوين توافق إقليمي - دولي مشابه للسابق، يمكن أن يقود الى تعديل مشروع النظام المُعدل بالطائف. خصوصاً وأن الإقليم ما زال في بداية مرحلة إعادة صياغة توازنات جديدة بعد تبدل موازين القوى نتيجة تداعيات الحروب والإصطفافات التي شهدتها المنطقة. في وقت أن بقية العالم منشغلة بلملمة الفوضى التي تركها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلفه.

مما يعني أن إنتظار الحل الخارجي الذي يمكن أن يمنح لبنان واللبنانيين فرصة جديدة للحياة غير متوفر. لذلك لا بد من إستنباط حلول وطنية داخلية وليس تسويات طائفية تقليدية كالتي كانت وما زالت تقوم على التكاذب في التعايش، كما تقوم على إعتماد إزدواجية في الخطاب السياسي والإعلامي، خطاب للجمهور الطائفي الخاص قائم على التخويف من اللبناني الآخر وتخوينه، وخطاب ثانٍ يعتمد التعميم في الطروحات السياسية لزوم الوجاهة «الوطنية»: الوسيلة الفعالة لتقاسم الحصص والغنائم في السلطة. إن أية حلول داخلية يجب أن تبدأ من صياغة آلية إنتقالية شفافة لإعادة تكوين السلطة. وهذه الآلية لا يمكن أن تنتظر الإستحقاقات الدستورية النيابية والرئاسية الموعودة، والتي بدأت تتقاذفها القوى السياسية التقليدية ذاتها بحيث من المتوقع أن نشهد سجالاً حاداً حول ضرورة إجرائها أو «المصلحة الوطنية» في التمديد لهيئاتها ورؤسائها، بالتزامن مع إستمرار الإذلال المعيشي للمواطن اللبناني وإغداق الوعود المستقبلية عليه في مراحل لاحقة، يبرع حارس مغارة هذه السلطة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تحديد الآليات والمواقيت لتقديم جرعات من هذه الوعود التي لا يمكن أن تشفي من أمراضنا المزمنة. لذلك وبناءً على الوقائع السياسية الحالية التي تحدد بشكل واضح وجلي مكامن الحواجز التي تقف عثرة حقيقية في وجه التأسيس لأي مشروع إنقاذي فعلي وعاجل، وبسبب الوهن الذي أصاب موقع رئاسة الحكومة بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري وبالتالي تراجع فعالية هذا الموقع في قيادة أي مشروع وطني جامع.

بناءً على ذلك، يمكن إعتبار موقعي رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي العائقين الفعليين اللذين لا بد من تجاوزهما لإطلاق ورشة وطنية عملية وسريعة لصياغة رؤية الإنقاذ الموعودة. وهذا يعني بصراحة مطلقة أن توهم إمكانية إطلاق هذه الورشة في ظل الرئاستين الحاليتين مستحيل بل أكثر من ذلك. إذ أن الإستحواذ السلبي الذي يفرضه النائب جبران باسيل على مفاصل إدارة القرار الرئاسي بهدف الإستثمار الشخصي فيه ومن خلاله، لن يسمح بنجاح أية مبادرة يمكن أن تنطلق من موقع الرئاسة بشخص العماد ميشال عون لا تصب في مصلحة باسيل. كذلك فإن الترهل التشريعي الذي أصاب المؤسسة الأم المولجة صناعة السلطة، جعل رئيسها مديراً إدارياً لجلسات فولكلورية غير منتجة خصوصاً في هذا التوقيت الإستثنائي من عمر حاضر ومستقبل الكيان اللبناني. هذا إذا تناسينا الدوس على مبدأ الفصل بين السلطات الذي دفع رئيس المجلس النيابي نبيه بري كذلك رؤساء كتل نيابية أساسية أخرى الى التغاضي عن القيام بدورهم في مساءلة الحكومات ومحاسبتها، بمعنى آخر فإن هذا المشاركة بالمحاصصة وفرت حضناً نيابياً آمناً لتلك الحكومات المتعاقبة.

إن لبنان في ظل هذا الصلف الجنوني الذي يبديه بعض المسؤولين في مقاربتهم لأزمة وطنية خانقة، يحتاج الى قماشة رئاسية وحكومية ونيابية من نوع مختلف.

وإن الإنتظار المميت لإجراء التغيير في مواعيد الإستحقاقات الدستورية التي تتحضر منظومة السلطة للإنقلاب عليها لم يعد مجدياً، هذا إذا تمكن لبنان واللبنانيون من الصمود والحياة الى حينها.

وإن الإعتقاد بإمكانية أن يشهد لبنان واللبنانيون زحمة إهتمام إقليمي - دولي مشابه لما شهدوه بعد العام 1993 ضربٌ من الوهم والخيال. لذلك تنحيكم الهادئ جميعاً عن مواقع الرئاسات الأساسية هو البداية ومن دون ذلك الإستمرار بالإنحدار الى النهاية.

MISS 3