السفير د. هشام حمدان

فلسطين - لبنان والشرق الأوسط الجديد!

20 أيار 2021

02 : 00

إستمعت إلى ما قاله الباحث الدكتور نبيل خليفة في حوار مع إحدى محطات التلفزة مؤخّراً. سررت لأنّ باحثاً رصيناً كتب أخيراً في موضوع الشرق الأوسط الجديد ببعد عقائديّ، وليس ببعد سياسيّ فقط، مشيراً إلى موضوع الإسلام كعدوّ جديد لـ"الغرب". وصادف أنّ هذه المقابلة حصلت في وقت تتعرّض فيه فلسطين إلى حرب جديدة قد تكون مصيريّة هذه المرّة.

أنا أريد أن أحيّي الدكتور نبيل على هذه الإضاءة، وإن كنت لا أوافقه آراءه. ولا أخفي أنّني أعمل جاهداً كأستاذ زائر في جامعة تكساس في أوستن، على إنجاز كتاب متكامل بشأن هذا الموضوع. أريد أيضاً، أن أشكر صحيفة "نداء الوطن" التي أفسحت لي المجال لكتابة آرائي من دون أيّة شروط مسبقة، فنشرت الكثير من المواضيع التي تناولتها المعلومات التي تحدّث عنها الدكتور نبيل، ومن دون اعتراض على مضمونها. لم تحظ كتاباتي سوى باهتمام وسائل إعلام متحرّرة أخرى كنداء الوطن، أمّا الغالبيّة فقد امتنعت عن نقلها أو عن إفساح المجال لحوار معي. من الصّعب جدّاً، أن تجد وسيلة إعلاميّة راقية مثل نداء الوطن، تفسح الحرّية لكتّابها المستقلين. فوسائل الإعلام بشكل عام تقرأ المصلحة الوطنيّة إستناداً إلى توجّهين متناقضين يعكسان الولاءات الداخليّة للفكر الخارجي الذي يملك توجيه الصّراع الداخلي القائم في لبنان. بعضها يستند إلى الفكر الأميركي بكل ما يبرزه أحياناً من قباحة ضدّ حقوقنا الوطنيّة، والبعض الآخر يستند إلى الفكر الإيراني بكل ما فيه من تدمير لوحدتنا الوطنيّة ومصيرنا الإستقلالي. أما المستقلّ الذي يمكن أن يفضح القباحة ضد المصلحة الوطنيّة المتأتّية من أي فكر خارجي، فسيلقى صعوبة بالغة في نقل فكره.

لا أخفي أنّني لم أقرأ الكتاب بعد، ولا أعلم ما إذا كان من استضافه قد اطلع على مضمونه. لكن مضمون ما قاله الكاتب في اللقاء الإعلامي أثارني، لا سيما أنني كنت استمعت إلى إعلامي يتحدث سابقاً عن تحالف بين اليهود والشّيعة بحجة تحالف الأقليّات.

لطالما كتبت محذّراً، ومنذ عام 2010، من الأبعاد الطائفيّة والمذهبيّة لما سمّي "الرّبيع العربي". وقد نبّهت إلى أنّ هذا الشّعار ليس سوى غطاء حريريّ للغرض الحقيقيّ للأحداث والتي بشّرتنا بها السيدة كونداليزا رايس عام 2005، بعبارة "الفوضى الخلّاقة". ولطالما أشرت في مراسلاتي مع الإدارة، وفي كتاباتي ومقالاتي، ومنذ كنت أمثّل لبنان في الأمم المتّحدة في نيويورك بين الأعوام 1994 و1999، إلى المساعي الأنكلوسكسونيّة لجعل الإسلام العدوّ الأوّل للعالم بعد الشّيوعيّة. وقد نقلت لإدارتي بالتفصيل المملّ، كلّ ما كان يحصل في المطبخ الدّولي من مناقشات لرسم قواعد جديدة للنّظامين الدّوليّين السياسي والإقتصادي. لم يكن هناك أيّ تفاعل من الإدارة التي كان يحكمها قرار الوصي السوري. أخذت المبادرة التلقائيّة للمشاركة بفعاليّة في هذه المناقشات، بغية حماية الحقوق الوطنيّة. وقد لخّصت كل ذلك في كتاب لي صدر عام 2008. كما نقلت باهتمام بالغ ما حصل خلال المؤتمر الصهيوني في بيونس أيريس عام 2012، والذي انتهى إلى اعتبار المسلمين والعرب، الأعداء الرّئيسيّين للصهيونية بدلاً عن النازيّة.

لم أسمع في أيّ مكان أو مناسبة، أحداً يميّز في عدائه للإسلام، بين مسلم شيعي ومسلم سنّي. كان الهجوم على "حزب الله" الشّيعي، وعلى تنظيم القاعدة السنيّة، في ميزان واحد. الجماعتان إعتُبرتا قوّتين إرهابيّتين. لذلك فوجئت عندما أشار الدّكتور خليفة، الذي أشار إلى أنّ الهدف من الشّرق الأوسط الجديد، هو إقتلاع العرب والسنّة، ورأى أنّ هذا الأمر يتمّ بالتّوافق بين "الغرب وإسرائيل وإيران".

كما أنّ توجيه الإتّهام إلى الغرب بالعداء للإسلام، وتحديداً للسنّة من بين هؤلاء، ليس موفّقاً ولا دقيقاً أبداً. نعم، كانت هناك محاولة لجعل الإسلام عدوّاً للبشريّة، لكنّها لم تكن تميّز في أيّة مناسبة، بين السنّة والشّيعة. لم يكن "الغرب المسيحي، من موسكو الأرثوذكسيّة، إلى أوروبا الكاثوليكيّة، إلى أميركا البروتستانتيّة"، من رعى تلك الحملة، كما قال الدّكتور نبيل، بل كانت الأنكلوسكسونيّة فقط. أذكر أنّ السّعاة إلى هذا الهدف حاولوا ترويج كتاب صموئيل هانغتنتون بشأن حتميّة صراع الحضارات، لتعميق القناعات الأكّاديميّة بشأن هذا التوجه. لكنني أذكر ايضاً، موقف الرئيس كلينتون عام 1995، في ملتقى فكري كبير في نيويورك، رفض فيه صراحة هذا التوجه. لم يجرؤ أحد يوماً على التّرويج لهذا الفكر في محافل الأمم المتّحدة، بل كانت هناك حملة شعواء ضد الإسلام وفوبيا في محافلها المتعلقة بحقوق الإنسان. تلك المحاولة الشّاملة فشلت أصلاً.

كما أنّه يجب أن ندرك أن هذا الفكر الأصولي المقيت لم يشكّل يوماً موقفاً أميركيّاً رسميّاً أو شعبيّاً. مرّت مرحلة ساد خلالها خوف عامّ، ليس في اميركا فحسب، بل في كلّ أنحاء العالم، ولا سّيما بعد أحداث أيلول 2001، من كلّ "شرق أوسطيّ مسلم أو غير مسلم"، فالحملة على الإرهاب كانت مخيفة، لكنّها لم تميّز ابداً بين المواطنين. الجنسيّة الوطنيّة هي التي كانت طاغية. هل يمكن أن ننسى كيف أنّ الطائرات التي تصل من بيروت، كانت تقف في أماكن خاصّة لتسهيل مراقبة ركّابها؟ الإتّهامات ضدّ "حزب الله" بارتكاب جرائم بيونس ايريس خلال التسعينات، وبالنشاط "الإرهابي" في المثلّث الحدودي، تحوّل إلى إتّهامات ضدّ لبنانييّن بشكل عشوائي.

كتبت مراراً أنّ الغرب لديه هدف محدد مشترك في الشّرق الأوسط الجديد، هو تعزيز التفوّق الأمني الإسرائيلي، سواء من خلال طغيان منظومة سلاحها على أيّة منظومة سلاح في بلدان تلك المنطقة، أو من خلال إزالة المفهوم الإيديولوجي القومي، للصّراع معها. وهذا لم يكن ليتم من دون تفتيت الدّول العربيّة، ولا سيّما الدّول الرّاديكاليّة بينها. هذا التبدّل في الأنظمة يزيل النّظرة القوميّة ذات الطّابع الوجودي الحضاري مع إسرائيل، ويحوّله إلى صراع بين دول على مساحات جغرافيّة يمكن دائماً تسويتها في مراحل لاحقة.

كان هناك اتّفاق أيضاً، في "المؤسّسة الأميركيّة" على هذا الهدف. تمّ إحياء نظام الإخوان المسلمين السنّة في تركيا، وبعث أمجاد الخلافة العثمانيّة، للإستفادة من دور تركي ينهض بالفكر الديني السنّي في الدول العربيّة. وتم التمهيد لنظام وليّ الفقيه في إيران، لقيادة الشيعة العرب. تركيا سعت لدعم سلطة مرسي في مصر وتحمّست لحماس، لكنها ظلّت تعتبر إسرائيل دولة صديقة. نظام ولي الفقيه أطلق الشعارت العدائيّة ضدّ إسرائيل، ودعمت حزبه في لبنان لمقاتلة إسرائيل. لكن كل ذلك لم يمنع هذه الأخيرة من تركه يسود ويمرح في العراق وسوريا ولبنان واليمن. الكراهيّة التاريخيّة لولي الفقيه للسنة تغلب في فائدتها، أي ضرر متأت من الشعارات إذا كان هناك فعلاً من ضرر، ويمكن دائماً تليينها، كما أنّ حروب حزبها في لبنان، إنتهت عام 2006، ووقف المجتمع الدولي كلّه بالمرصاد لأيّة محاولة عبثية جديدة لها أو له.

نحن نرى نتائج كلّ ذلك فعلاً على أرض الواقع. دول التّصدي والصمود والرفض، تفكّكت وإن لم تقسّم إلى دول. لا شكّ أنّ الصّهيونيّة والمتطرّفين في الكنيسة الصهيونيّة في اميركا، سعوا لرسم الشرق الأوسط الجديد وفقاً لطموحاتهم التاريخيّة. وقد كتبت عن ذلك مراراً، منبهاً إلى مساعيهم لإقامة دولة كرديّة وأخرى علويّة، وثالثة درزيّة وتناهش تركيا السنيّة للباقي. لكنّهم فشلوا. فالمصالح الدوليّة لم تتطابق مع الرؤى المتطّرفة للأنكلوسكسونيّة القديمة. كنت أتمنّى أن يقرأ الدكتور نبيل بدقّة ما حصل في أميركا خلال حقبة الرّئيس ترامب الذي يعتبر أقصى صقور الكنيسة المسيحيّة البروتستانتيّة الصهيونيّة في أميركا. هو حاول تحقيق الحدّ الأدنى من طموح كنيسته في الشّرق الأوسط، أي إلغاء مفهوم الدّولتين في فلسطين التاريخيّة ففشل. وقد انقسمت أميركا فوراً عندما برز فكره الأصولي. غالبيّة الشّعب الأميركي لا تؤيّد هذا الفكر الأصولي المتطرّف، بما في ذلك في فلسطين والشّرق الأوسط، لكنّها كانت تجهل الحقائق. وأنا أذكر أن رئيسة الأرجنتين الدّكتورة كريستينا كيرتتشنر قالت لي عام 2007 "كانوا يكذبون ولم نكن نعلم الحقائق. ليس بإمكانهم خداعنا بعد الآن". حتّى في بريطانيا والدّول الإسكندنافيّة، وهي بلدان الأصل للأنكلوسكسون، لم تتّفق على كلّ مطالب الكنيسة الصهيونيّة. لا ننسى أنّ السويد والنّروج والدّانمارك وحتى هولندا، صارت بعد اتفاق أوسلو، من أكثر الدّول المؤيّدة للحقوق الفلسطينية بدولة لهم. هل ننسى أن مجلس العموم البريطاني دعا إلى نزع الأولويّة عن موضوع الأمن لإسرائيل والإعتراف بدولة للفلسطينيين؟ ما يحصل الآن في فلسطين، قد يكون بمثابة حرب "حزب الله" عام 2006، والحملة التي يقوم بها المفكّرون الأحرار في أميركا ضد الصهيونيّة المتطرّفة، إنّما هي الدّليل على أن الشّرق الأوسط الجديد لن يقوم إلّا بعد الإتفاق على دولتين في فلسطين التاريخية.

عام 2014 نشرت في إحدى الصحف مقالة قلت فيها انّ السّلام بين العرب وإسرائيل صار قريباً. لكنّها رفضت أن تنشر لي مقالة أخرى كتبت فيها عن التحوّل الثقافي الذي كان يحدث من خلال استبدال الثقافة الإيديولوجيّة القوميّة بالثّقافة الدينيّة. كان مفهوماً لي أنّ للكلام حدوداً. الكلام عن السّلام حاجة، ما عدا ذلك لم يكن مفيداً في حينه.

لن أكتب الآن عن الموضوع الإقتصادي والغاز والبترول وغيره. سأكتب لاحقاً بهذا الصدد، لكنّني أقول انّ الشّرق الأوسط الجديد سيجعل إسرائيل جزءاً من دول الشّرق الأوسط. إيران ستخرج من كل الدّول العربيّة. إنتهى دورها. وكذلك تركيا بعد أن يضمن لها اتّفاق جنيف منطقة آمنة في إدلب تكون فاصلة بينها وبين الأكراد والعلويين. وستقام سوق شرق أوسطيّة جديدة تكون كلّ الدول مستفيدة إقتصاديّاً منها، بما في ذلك إيران وتركيا، وبشكل خاص إسرائيل.

ليدرك من يكتب عن الشّرق الأوسط الجديد، أنّ إسرائيل والغرب لا يقبلان بقوّة مجاورة لها يمكن أن تهدّد أمنها القومي، سواء كانت شيعيّة أو سنيّة او مسيحيّة. لا أقليّات غير يهودية في الشّرق الأوسط، أهم من الأقليّة المسيحيّة، وحمايتها ليس فقط بضمان الوجود المسيحي فيها، بل بإستمرار دورهم الثقافي المميّز كجسر بين الغرب وهذه المنطقة.

لبنان سيعود درّة الشرق، ولن يكون جائزة ترضية لا لإيران ولا لتركيا أو غيرهما. لبنان هو الجسر الثقافي الذي سيبعث بثقافة العيش المشترك بين أقليّات المنطقة وأنظمتها الجديدة. لبنان سيكون مركز حوار الحضارات والثقافات والأديان في العالم. وستقوم دولة فلسطين وسنحتفل بولادتها قريباً.

MISS 3