محمد عبيد

لبنان "المؤجل" !

31 أيار 2021

02 : 01

حزب الله ومسؤولية إنقاذ ما تبقى من الدولة

هل يمكن التفاهم مع "حزب الله" حول توصيف المقدمات التى قادت الى الإنهيار؟ سؤال صار لا بد من الإجابة عليه إنطلاقاً من الخطاب السياسي والإعلامي الذي يعتمده الحزب والذي يروج لمقولة أن العقوبات التي فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة عليه وتباعاً على بعض بيئته الحاضنة، ومن ثم الحصار المالي المُطبق على لبنان هي السبب الرئيسي والوحيد في الوصول الى هذا الإنهيار، متجاهلاً عن قصد الأدوار العميقة والمباشرة لمنظومة الحكم الفاسدة التي أمسكت بمفاصل الإدارة والمؤسسات على مدى عقود ثلاثة. ذلك أن "حزب الله" إضطر بعد الخروج السوري من لبنان الى صياغة تحالفات مع جزءٍ من هذه المنظومة وفق نظرية دوائر الأمان الثلاث التي يجب رسمها حول المقاومة بهدف حمايتها وتجنيبها الإستهداف المباشر.

عمد الحزب في الانتخابات النيابية العام 2005 الى الدخول في ما سُمي "التحالف الرباعي"، الذي أفضى بنتائجه الى إعادة إنتاج "الحريرية السياسية" (الحريري- بري - جنبلاط) التي وضعت المداميك الأولى لمنظومة الفساد المذكورة. كان يرمي الحزب الى تطمين أركان هذه التركيبة الى ديمومتها وحفظ مصالحها في السلطة مقابل إسقاط مفاعيل القرار الدولي رقم 1559 حول البند المتعلق بتجريد الميليشيات من سلاحها، طبعاً كما هو معلوم كان المقصود حصراً من هذا البند سلاح المقاومة.

هذه كانت الدائرة السلطوية الأولى التي كان من المفترض أن تؤمن الحماية الأوسع للمقاومة وفق معادلة: نترك لكم السلطة فتعطونا الأمان.

أما الدائرة الثانية، فقد كانت تتعلق بالسعي الى تجنب تداعيات إغتيال الرئيس رفيق الحريري على مستوى العلاقات السنية - الشيعية في لبنان، وانعكاس ذلك على صورة الحزب كحالة مقاومة لدى الرأي العام العربي - السني والأوسع السني الإسلامي، هذه الصورة التي كان يعتبر الحزب أنه راكم فيها إنجازات جوهرية وعميقة إنطلاقاً من دوره المركزي في قيادة مسار الإنتصارات العربية على العدو الإسرائيلي، كذلك بناءً على مشاركته في التصدي لمشاريع القضاء على مسلمي "البوسنة" وغيرهم في بعض مناطق آسيا.

وقد نجحت قيادة "حزب الله" في تجنب التداعيات المذكورة ظرفياً، خصوصاً وأن الشق المتعلق بالإتهام السياسي في عملية إغتيال الرئيس الحريري كان حينها يتم تصويبه نحو سوريا، لذلك كان المجتمعون حول طاولة الحوار الشهيرة يتغنون بأن التفاهم على ما سُمي "المحكمة الدولية" لم يأخذ من وقتهم سوى دقائق معدودة!

غير أن الوقائع ما لبثت أن تبدلت مع قرارات 5 أيار الحكومية التي أنتجت 7 أيار العام 2008، هذا التاريخ الذي أرخى بظلاله السلبية على العلاقات السنية - الشيعية اللبنانية والعربية، بل تفاعل أكثر مع مشاركة "حزب الله" الى جانب الدولة السورية في مواجهة المجموعات الإرهابية التكفيرية في سوريا.

وأما الدائرة الثالثة وهي الأضيق فتتعلق بتحالف "حزب الله" مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهي الدائرة الوحيدة المتبقية من دوائر الأمان الإفتراضية تلك، طبعاً هذا إذا استثنينا إصرار الحزب على تظهير تمسكه بالحفاظ على الرئيس ميشال عون في موقع رئاسة الجمهورية حتى نهاية ولايته الدستورية، بعدما سقطت رهاناته على إمكانية توظيف تفاهمه الشهير مع الجنرال عون وتياره السابق في مشروع إنقاذ الدولة وتخليصها من براثن الفاسدين.

بناءً عليه وبالعودة الى توصيف المقدمات، يعتبر البعض أن الأداء البراغماتي الذي حكم مقاربات الحزب للشأن الداخلي منذ العام 2005، كان سيقود حتماً الى توجه الحزب نحو إتهام الولايات المتحدة الأميركية بالمسؤولية عن الإنهيار المالي والإقتصادي في لبنان.

ذلك أن كلفة هذا الإتهام على المستوى السياسي الداخلي هي صفر لا أكثر، بل ان حصر المسؤولية بواشنطن وحلفائها يوفر للحزب مادة إعلامية - سياسية يمكن توظيفها لدى جمهوره في مسار صراعه الإستراتيجي مع أعدائه.

في حين أن تكلفة فكرة تحميل بعض المسؤولية لمنظومة السلطة الفاسدة والفاشلة، ستؤدي الى اهتزاز الدائرة الأخيرة المتبقية كون الرئيس بري أحد أركان هذه السلطة.

ولذلك بدا الحزب مضطراً لتناسي مشروع القانون رقم 44 الذي أُسقِط على جدول أعمال جلسة نيابية عامة لتشريع الضرورة العام 2015، هذا القانون الذي شَرَّع الكشف عن حسابات اللبنانيين كافة أمام مكتب مكافحة تبييض الأموال والإرهاب في وزارة الخزانة الأميركية، والذي مكن هذا المكتب ومن خلال القانون الذي تم التصديق عليه بسرعة البرق وبمادة وحيدة كالعادة، مَكَّنَه من الإقتصاص من البيئة الشيعية الحاضنة على مستوى الأشخاص والكيانات المصرفية والتجارية والإغترابية بناءً على تهم "موثقة"!

وكل ما تبع ذلك من إجراءات مصرفية إتخذها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومعه بعض أباطرة جمعية المصارف كانت إنفاذاً للقانون المذكور مع بعض التسهيلات الوضيعة، وذلك مقابل تجنيب وضع مصارف هؤلاء على لوائح العقوبات الأميركية.

كما أن كل ما تبع ذلك من قطيعة حادة مع سوريا وتحميلها بعضاً من مسؤولية الإنهيار من خلال الإثارة السياسية والإعلامية لموضوع التهريب على الحدود المشتركة، إضافة الى المساومة على ملف ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، كان يهدف الى الهروب من العقوبات الأميركية التي عادت وطالت بعض أركان المنظومة الحاكمة وحاشيتهم.

إن الإفراط في البراغماتية كأسلوب لمقاربة أزمة سياسية - إقتصادية لم تعد تداعياتها تقتصر على الحزب أو المقاومة أو الشيعة حصراً، أدى عملياً الى نتائج كارثية على لبنان واللبنانيين كافة.

من الطبيعي أن نسعى جميعاً الى الحفاظ على مكوّني الدائرة الشيعية المعروفين، إنما من غير المنطقي أن يستمر أحد هذين المكونين بالإعتقاد أن التفاهم القائم بينهما يعفيه من مسؤولياته عن الإنهيار وأدواره التي لعبها بحرفية لقوننة الفساد وآلياته.

وهذا يعني أيضاً أنه من غير الطبيعي أن يتحول تفهم الشيعة لأولويات "حزب الله" في ما يعني حماية المقاومة، الى وسيلة لدفعهم مرغمين للقبول بمشاهدة دولتهم وحاضرهم ومستقبل أولادهم تنهار كلها على أعتاب تلك الدائرة التي تستحيل محاسبة ومساءلة أي من مكوناتها !

"الصبر الإستراتيجي" العنوان الذي عممه الحزب في أوساط بيئته كتحدٍ للحصار الأميركي عليه، هو التزام مبدئي وأخلاقي عمل به كل منتمٍ الى خيار المقاومة. أما الصبر على الفاسدين كافة في السلطة الذين كانوا وما زالوا أدوات هذا الحصار والذين عَبَّدوا الطرقات له، فهو أمر صار مستحيلاً بعدما بلغ الصلف وعدم الإكتراث من قبل أركان هذه السلطة حداً أوصل لبنان الى الخراب.

وبصراحة مطلقة، اليوم في ظل الإنكفاء السياسي السني عن مشروع قيادة السلطة، وبعدما سقطت التجارب الرئاسية المارونية المتلاحقة في استعادة لبنان النموذج المُتخيل، تقع المسؤولية الوطنية الأولى وليس الحصرية على الشيعة ليكونوا رافعة لإنقاذ ما تبقى من الدولة، للشروع لاحقاً في مسار إعادة صياغة النظام السياسي بما يحفظ التوازن الوطني والمسؤول. وهي مسؤولية بل واجب عليهم بعدما أعطاهم هذا الوطن من الحرية ما سمح لهم بإنشاء مقاومتهم، كما كان وما زال منصتهم التي يطلون منها على العالم وعلى قضاياه من موقع القوي.

وهي مسؤولية لا يمكن أن تقوم دون إيثار، والإيثار لا يكون مع بطون لا تشبع !

وبالإنتظار ستبقى قيامة لبنان فعلاً مؤجلاً!


MISS 3