نبيل أبو شقرا

الزواج من خارج الدين مستهجن طائفياً... ومرفوض درزياً

23 كانون الأول 2021

02 : 00

بين "برودة" الأرقام و"جلافة" الحسابات والموازنات كبُرت قصة حب "حمراء" ناعمة في أروقة وزارة المالية في بيروت. عبق المدينة الجامحة بالتنوّع، الفوّاحة بكسر القوالب الجامدة تسلّل من دون استئذان إلى قلبي سامر وندين. تنشقاه بشغف من دون أن يعيرا بداية الأمر اهتماماً بشيء. كحال الولهانين، ظنّاً أن الجاذبية التي تجمع نظراتهما قادرة على إنزال كل ثقيل من علياء العادات والتقاليد. لكنهما، لم يدركا إلا متأخرَين أن الزواج من خارج الدين يسبح في فضاءاته الخاصة متحرراً من أي جاذبية، مهما عظمت.

"معش في عنا بنات بالطايفة؟"، هذا الكلام الساخر الرادع، كان أول ما سمعه سامر حمدان، الشاب الشوفي الدرزي من قرية باتر الجبلية، عند إعلان ارتباطه جدياً بفتاة مسلمة سنّية. تعليق "من عمر الخبز" اتفق عليه الجميع، وكأنه كلمة السر لفتح كوة في رأسه تسمح بإخراج هذا "الوسواس". لتكرّ من بعدها سلسلة متواصلة من الترغيب والترهيب الممنهج للثني عن هذه الخطوة.

البداية كانت بتذكيره، أو بالأحرى تنبيهه الى ان الدرزي الذي يتزوج من خارج الدين لا يعود درزياً، لا هو ولا أولاده من بعده. فعلى عكس بقية الطوائف والمذاهب فان الدين الدرزي مغلق. حجة قوية تدفع المؤمنين والمتدينين إلى التفكير ألف مرة قبل القيام بمثل هذه الخطوة. إلا أنها اصطدمت بعلمانية سامر وأفكاره التحررية، ولو أنها كانت توحيدية تؤمن بالخالق الواحد، وبأن في النهاية الجميع يؤمن بالله ولكن كل على طريقته.

فشل الحجة الماورائية قاد الزاجرين إلى "استلال" الفروقات الاجتماعية، مستحضرين حكمة الأسلاف "من يأخذ من ملّة غير ملّته، يموت بعلّته"، يقول سامر. "الجميع حاول إقناعنا بطريقة أو بأخرى بالعدول عن فكرة الزواج متسلحاً باختلاف العادات والتقاليد بين البيئتين. ومع تكسّر الحجج على "شاطئ" التقارب الفكري والاجتماعي بين عائلتي وعائلة ندين، لم يبق أمامهم إلا "رمينا" باشكالية تربية الاولاد، وعلى أي مذهب سينشأون، وأي طقوس سيمارسون، وبأي تعاليم سيلتزمون. والمثير للدهشة أكثر كانت مقاطعتنا من زملاء ورفاق متعلمين يدّعون التحرر والمساواة في أقوالهم. ومن تقبل الفكرة على مضض، بارك مع تسجيل اعتراض".


سامر وندين



تصاعد الضغوط

الضغوط على سامر التي كانت تأخذ وتيرة تصاعدية مع "تفتّح" الحب أكثر، واقترابه من أن "يعقد" ويتحول إلى ثمرة غنية بعصائر الحياة، لم توفّر ندين كوسا. الصبية السنية البيروتية تعيش وسط رحاب عائلة صغيرة تشكل حالة فريدة بتنوع زيجاتها. وليس من مانع لدى أهلها بتزيين مزهرية مصاهراتهم بعريس درزي. إلا أن هذا الخبر سيكون كـ"صب الزيت على نار" غضب أقاربها ومحيطها الذين لم يُطفئوا بعد نيران زيجات أخواتها السابقة. فلندين شقيق متزوج سيدة من الطائفة الكاثوليكية، و3 شقيقات كل واحدة منهن متزوجة إلى طائفة مختلفة. فواحدة متزوجة من مسيحي، وأخرى من شيعي والثالثة من سني. هذه التجربة الغنية والمتنوعة جذبت "سهام" المنتقدين من كل حدب وصوب، ومقاطعة الأبعدين والأقربين، إلا أنها لم "تدك" جدران العائلة الصغيرة التي كانت ترتفع اكثر مع كل محاولة تشويه، برأي سامر. ومن كان يبتعد وينتقد فـ "الله معو". ولم تحاول العائلة استرضاء احد على حساب سعادة إبنها وبناتها". وبحسب سامر فان "الامور وصلت بأحد أقارب زوجته إلى اتهامه بالارتداد عن الدين، ووضع الزواج في خانة الزنى".



يوم الارتباط



إسلام على عين المجتمع

سامر وندين لم يتخطيا كل المعوقات الاجتماعية كما كانا يتمنيان، فقد اضطرا إلى عقد قرانهما على الطريقة الاسلامية أمام المجتمع، بعدما كانا تزوجا بعقد مدني في قبرص. "مع العلم أن الضغوط التي تعرضنا لها كانت كفيلة بثني أي ثنائي عن المتابعة والاستمرار"، يقول سامر. فـ"تعرفت عائلتي الى ندين واحبتها وانسجَمت مع محيطي وعائلتي، كما أحببت أنا عائلتها لدرجة أنها أصبحت بمثابة عائلتي الثانية". ويضيف "ما كتبته وشريكتي بالقناعة التامة لم يكتب لكثر غيرنا. فواحد من زملائي خاض حرباً ضروساً مع والده ومجتمعه لتحقيق تقدم ولو بسيط على "جبهة" الزواج من غير طائفته. وقبل أن يستسلم لليأس والخنوع، تبرعت بالتكلم مع والده واقناعه بالفكرة، إنطلاقاً من تجربتي الناجحة والسعادة التي كنت أعيش فيها. وبالفعل، دعاني صديقي إلى مأدبة غداء في منزله. وبعد السلام والكلام والأخذ والرد فاتحت الأب بموضوع الإبن عارضاً له تقبل عائلتي لزواجي من غير طائفة. فما كان منه إلا أن اقفل الموضوع هارباً إلى الصمت الغاضب بقية الجلسة، من دون حتى أن يودعني في طريق مغادرتي".



تخطيا العقبات واسّسا عائلة جميلة



الاختلاف موجود، ولكن!

ماذا عن كل التحذيرات قبل الزواج هل صح أي جزء منها بعده؟ نسأل سامر بدافع من الحشرية يبتسم. يرتشف قهوته على مهل، ليجيب أن الاختلاف في العديد من العادات والتقاليد بين أصهرة العائلة المتنوعين دينياً موجود. ونحن كنا مدركين له منذ البداية. واحد من الأمثلة التي يعطيها سامر على سبيل الذكر لا الحصر هو عدم إمكانية وضع المشروبات الروحية على مأدبة الطعام أو في المناسبات في منزل اهل زوجته. إلا أن هذا وغيره الكثير من الأمثلة لم يكن عائقاً في الانسجام. خصوصاً في ظل احترام كل واحد منا لخصوصية الآخر وتقاليده. أما في ما يتعلق بتنشئة الأطفال الذين نَعَم علينا الله باربعة منهم فلم نختلف أيضاً"، يعلّق سامر. وهذا يعود من وجهة نظره إلى التقارب الفكري بينه وبين ندين. و"قد علمنا أولادنا على التسليم بوجود الله والعمل الصالح، وشجعناهم على عدم التعامل مع أصحابهم بخلفية دينية أو مذهبية، إنما تبعاً للمعاملة الحسنة. ومع هذا تركنا لهم حرية اختيار المعتقد والطقوس التي يرغبون في ممارستها من دون أن نجبرهم على شيء. فاثنان من أولادنا يصومان طيلة شهر رمضان الكريم متأثرَين بجو مدرستهما ورفاقهما في الحي مكان سكننا في بيروت. وهذا لم يسبب أي مشكلة على الاطلاق، بل بالعكس فنحن نشجع اولادنا على الحرية واختيار ما يرونه مناسباً من الفروض والطقوس والعادات والتقاليد. ولا نمنعهم عن شيء يحبونه". يسكت سامر قليلاً ليقول "أنا متأكد من أمرين الاول أن أولادنا، (بنتان وصبيان)، سيواجهون مشاكل في المستقبل تتعلق بهويتهم الدينية، ولكني في المقابل على يقين من أنهم سيواجهون بصلابة بناء على التربية التي ننشئهم عليها".



لم يوفروا طريقة لثنيي عن الزواج من خارج الدين (فضل عيتاني)



الاستثناء وليس القاعدة

تجربة الزواج من خارج الدين لكل من سامر وندين لم تسبب المشاكل في علاقتهما. وهذا يعود بحسب سامر إلى الفكر العلماني الذي يتشاركانه عن قناعة تامة ولاقتناعهما بحرية المعتقد والتصرف وفقاً للقناعات الشخصية. إلا أن هذا ليس القاعدة يقول سامر إنما الاستثناء. ومن الصعب للعلاقة أن تنجح برأيه في حال وجود طرف واحد على الأقل متديّن في العلاقة، وقد تصبح شبه مستحيلة في ظل تديّن الطرفين، أي الرجل والمرأة. فعندها سيتجذّر الخلاف على كل شيء. ولا سيما على تربية الأولاد ومكان السكن والمدرسة المختارة والعلاقات الاجتماعية... وخلافه الكثير من الامور التي تتحكم بمصير العلاقة. أما إذا كانا علمانيين ومتفقين، فكل الامور تحل بالاتفاق والحوار. أي بالتراضي. ومنها كيفية توزيع الميراث. فبحسب الشرع لا تستطيع زوجتي توريث أولادي ولا أستطيع توريثها، إنما من الممكن تسجيل عقود بيع وشراء لنقل الملكية.

الزواج من خارج الدين عند طائفة الموحدين الدروز قد يكون الأصعب بالمقارنة مع بقية الطوائف. وإن كانت جميعها لا تحبذه، إلا أنها تتقبله. خصوصاً إن انضمت الزوجة إلى دين الزوج، والعكس صحيح. إلا أنه عند الدروز لا مجال لدخول فرد جديد على الدين. حتى أن أولاد المتزوج من غير طائفة لا يصح تسجيلهم في الهوية كدروز. ذلك مع العلم أن أولاد الذكور المتزوجين من غير طائفة زواجاً مدنياً يسجلون اليوم في دوائر النفوس على دين الأب. هذا العائق العقائدي لا نقاش فيه. وقد يكون بالنسبة لفئة واسعة، وتحديداً المتدينين، من المحرمات، وهو ينسحب على الذكور والاناث على حد سواء، ولو أن تبعات زواج الفتاة الدرزية إلى طائفة مغايرة تكون في الغالب أقسى عليها وعلى عائلتها. والمقاطعة العائلية والمجتمعية مع الخارجين عن الدين قد تكون لسنوات وأحياناً طيلة الحياة. إلا أن ما يثير الاستغراب هو هذا الكم من الإسقاطات الدينية على الحياة الاجتماعية عند مختلف الطوائف عندما يتعلق الأمر بالارتباط الجدي والزواج. فلا مشكلة في اللعب والعمل واللهو والمجاورة سوياً، أما أن يصل الأمر إلى الزواج فكارثة الكوارث.

قد يكون للطائفية المتحكمة في مفاصل الحياة اليد الطولى في هدم ما في القلوب لمصلحة الامتيازات الطائفية. وقد يكون الانقسام السياسي سبباً رئيسياً في إبعاد اللبنانيين عن بعضهم البعض. وقد يكون الجهل والأفكار المتحجرة والخوف من "اكتساح" الآخر ديموغرافياً وعقائدياً من الأسباب أيضاً... ليبقى الأكيد أن غياب الفكر العلماني، وعدم فصل الدين عن الدولة، ومنع تشريع الزواج المدني، أسباب رئيسية في بعد اللبنانيين عقلياً وعاطفياً عن بعضهم البعض.