السلام في تيغراي ممكن

02 : 01

برأي سكان تيغراي، ثمة طريق واضح لإرساء السلام لكنه يتطلب قرارات صعبة، بدءاً من فعل كل ما يلزم لتلبية أهم حاجات الناس. أصبحت معاناة سكان تيغراي والمناطق المجاورة موثّقة اليوم في إثيوبيا. بدأت هذه الحرب تخنق المنطقة بسبب ما تسمّيه الأمم المتحدة "حصار بحكم الأمر الواقع"، لكن تشير هذه العبارة المُخففة فعلياً إلى حصار وحشي يمنع وصول المساعدات الغذائية والأدوية إلى الناس الأكثر حاجة اليها، بما في ذلك الأولاد.

بالنسبة إلى سكان تيغراي، أصبح الأمن مسألة حياة أو موت، وتُعتبر "قوات دفاع تيغراي" الضامنة الوحيدة لأمنهم. يظن عدد كبير منهم أن هذه القوات هي التي أوقفت الأعمال الوحشية التي تحمّلوها سابقاً، ما يعني أنها تستطيع منع حصولها مجدداً. من المستبعد أن يتقبل سكان تيغراي أي شكل من الأمن عبر قوة مختلفة. بعبارة أخرى، يجب أن يضمن أي اتفاق سلام إبقاء "قوات دفاع تيغراي" القوة الأساسية في الإقليم بموجب اتفاق أمني يحظى بضمانات دولية.

من المعروف أن إثيوبيا وإريتريا تعتبران "قوات دفاع تيغراي" حتى الآن مصدر تهديد على أمنهما القومي. تريد الحكومة الإثيوبية نزع سلاح هذه الجماعة أو هزمها عسكرياً. لكن يرفض الإقليم هذه الخطوة ويقاومها بكل قواه. للتعامل مع مخاوف وطموحات جميع الأطراف، يجب أن تعلن الجهات المتناحرة وقف الأعمال العدائية جماعياً وتوافق على ترتيب أمني انتقالي حيث تُكلَّف "قوات دفاع تيغراي" بحفظ السلام والأمن في تيغراي. قد يسمح هذا الاتفاق الانتقالي بتنسيق الجهود المرتبطة بفرض الأمن، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وتسريع عودة النازحين داخل البلد وخارجه.

تنجم مشاكل إثيوبيا اليوم عن جمود سياسي مستمر، وقد أصبح البلد بأمسّ الحاجة إلى حل سياسي حقيقي. امتدت الحرب إلى جميع زوايا البلد، وهي تتمحور حول طبيعة الدولة الإثيوبية على غرار جميع الحروب السابقة. واجهت إثيوبيا منذ نشوئها كدولة قومية مركزية صراعاً على الرؤية المستقبلية التي تناسب البلد.

يشمل الدستور الراهن رؤية مبنية على الفدرالية الفضفاضة والمتعددة، أي تلك التي تتألف من عناصر كونفدرالية تتركز فيها السلطة بيد وحدات متنوعة.

تتطلب الفدرالية الإثيوبية متعددة الأطراف توسيع نطاق تفويض السلطة وزيادة هامش الاستقلالية، فضلاً عن حُكم ذاتي مشترك وترتيبات كونفدرالية أخرى، وفرص حقيقية لتقرير المصير، وشكل من الاستقلال عند الحاجة.

وصلت "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" ذات الميول الماركسية إلى السلطة في العام 1991، ثم تحوّلت إلى حزب سياسي حاكم يستعمل سلطة الدولة كقوة احتكارية مُهيمِنة. سرعان ما أصبحت هذه الجهة معادية جداً لمظاهر المحاسبة وحُكم القانون. تفتقر الدولة التنموية الإثيوبية التي تقودها هذه الجبهة إلى الشرعية الشعبية، لكن لطالما اتكلت على خدماتها لاسترجاع الدعم السياسي. تراجعت أهمية الديمقراطية في عهدها وباتت تحتل مرتبة ثانوية أو أقل. كان تقديم الخدمات الاجتماعية كفيلاً بإرساء الاستقرار وتحقيق أداء اقتصادي مبهر. لكن فشلت هذه الجماعة في طرح بديل عن الديمقراطية الدستورية.

شكّلت الانتخابات في إثيوبيا خلال عهد "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية" (باستثناء العام 2005) مساحة لتوسيع هامش المشاركة لكن من دون أي منافسة حقيقية، علماً أن وسائل الإعلام تعتبر هذا الاستحقاق سباقاً بحصان واحد. كذلك، اتّهمت أحزاب المعارضة، محلياً وخارجياً، الجبهة الثورية بانتهاك حقوق الإنسان وإسكات الخصوم.

برز عيبان أساسيان في الدولة التنموية الإثيوبية: بدت هيمنة الدولة أهم من التعددية الديمقراطية، وبقيت محاسبة الحكومة ضعيفة لأنها تتكل بشدة على شخصية المسؤولين وإشراف الأحزاب بدل حصول محاسبة حقيقية عن طريق المؤسسات الديمقراطية. كذلك، فشلت الدولة التنموية خلال هذا العهد في حماية الحقوق السياسية والمدنية الفردية واستسلمت أمام استفحال الفساد.

داخل تيغراي، فشلت "جبهة تحرير شعب تيغراي" في إنشاء منطقة دينامية وكفوءة، ومزدهرة اقتصادياً، ومبنية على معايير الجدارة، وملتزمة بالديمقراطية، ولم تستطع تقديم الخدمات التنموية على المستوى الاقتصادي أيضاً. وعلى غرار المناطق الأخرى، عجز إقليم تيغراي عن إرساء شكل حقيقي من الحُكم الذاتي بما يتماشى مع بنود الدستور. استعملت "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية" مبدأ المركزيـة الديمقراطية، بصفتها الجهة الحاكمة التي تشمل أعضاءً يسيطــرون على الأقاليم، لتحويل الفدرالية بحكم القانون إلى مركزية بحكم الأمر الواقع.

مقابل رؤية الدولة الإثيوبيــة الفدرالية الفضفاضــــة، انطلقت اليوم جهود لبناء الوطن وهي ترتكز على مبدأ المركزية الذي يحاول في جوهره استرجاع صلاحيات شبه أحادية كان الدستور قد أعطاها طابعاً لامركزياً منذ عقود. ترتكز هذه المقاربة على رؤية تَحِنّ إلى عصر الإمبراطورية الإثيوبية الغابرة وتتمسك بإرث دولة فشلت في بناء وطن مشترك يعامل جميع مواطنيه وتنوعه الثقافي بالتساوي. عادت هذه الرؤية إلى الواجهة مع وصول آبي أحمد إلى السلطة، وهي تربط مختلف الجماعات الثقافية بدولة تعجز عن بناء وطن حقيقي.

أنتجت عملية بناء الوطن إرثاً مبنياً على الهيمنة العرقية، والمركزية، والتكامل، وحروب المقاومة، والتقسيم، والنزوح، والمجاعة. كانت الجهود السابقة لبناء دولة قومية في أنحاء إثيوبيا قد فشلت، ما أدى إلى قمع مختلف الشعوب والعجز عن إدارتها. يُعتبر سكان تيغراي آخر ضحايا هذه المقاربة المركزية.

مع استمرار الصراع المسلّح في مناطق مختلفة من البلد، تحوّلت حرب الأفكار هذه إلى قتال شرس بين رؤية تطغى عليها الأغلبية العرقية وتفتقر إلى الديمقراطية وتبدي عدائية كبيرة تجاه الاستقلالية واللامركزية، ورؤية قائمة على التعددية والفدرالية والترتيبات الكونفدرالية وحتى الاستقلال.

لا تُعتبر النزاعات الحدودية الداخلية ظاهرة جديدة في إثيوبيا، فقد سبّبت في الماضي صراعات عنيفة في ولايات صومالي، وعفار، وأوروميا، وبني شنقول-جوموز. لكن من المتوقع أن يطلق سوء إدارة المشاكل الحدودية مع تيغراي اليوم سابقة أكثر خطورة ويسرّع مسار تفكك البلد.

في الوقت الراهن، تقع معظم أجزاء تيغراي خارج السيطرة العسكرية والإدارية للحكومة الاتحادية. وفي بعض أجزاء أوروميا وبني شنقول-جوموز والمناطق التي تَحِدّ السودان وإريتريا، تفرض الحكومة الاتحادية سيطرة إدارية محدودة جداً. تنشط قوات الدفاع الإريترية، وقوة الدفاع الوطني الإثيوبية، وقوات دفاع تيغراي، وجيش تحرير أورومو، وجماعات مسلحة أخرى في مناطق مختلفة من البلد.

يحمل دستور إثيوبيا من العام 1995 وعوداً كبرى ويثير استياء الكثيرين، لكنه يبقى الأداة الوحيدة التي تضمن تماسك البلد. وحده هذا القانون الأساسي يستطيع إعادة رسم الحدود الداخلية أو الخارجية المتنازع عليها، وسيكون استيلاء قوات أمهرة على مناطق في غرب تيغراي، والشمال الغربي، والمناطق الجنوبية، هزيمة للغاية الأصلية من الدستور.

مــــــيــــــهــــــاري تــــــاديــــــل مــــــارو

يسهل أن تزيد المطالبات بالأراضي، بما يتعارض مع الوقائع التاريخية، وقد تُسفَك الدماء إلى أجل غير مُسمّى إذا استولت جماعات معيّنة على بعض المناطق من دون مراعاة الحدود التي ينص عليها الدستور راهناً. بعد استرجاع الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب، يملك إقليم تيغراي الحق الدستوري بإدارة المناطق، ويُفترض أن تُحَلّ الخلافات عبر الآليات الدستورية المعمول بها.

لكن لا يمكن الوثوق بقدرة المؤسسات الإثيوبية على إطلاق مسار موضوعي وحيادي لإنهاء الحرب على تيغراي ومناطق محلية أخرى. تسود في تيغراي فكرة عامة مفادها أن المؤسسات الاتحادية هي جزء من الحرب المعلنة ضد الإقليم، وبالتالي لا يمكن الوثوق بها. إلى حين استرجاع جزء من الثقة المفقودة، من المستبعد أن يتعاون تيغراي بالكامل مع مبادرات تقودها الحكومة الاتحادية لإطلاق الحوار ومحاسبة المرتكبين.

يجب أن تُعطى الأولوية للتحقيقات المستقلة التي تُركّز على الضحايا، مثل اللجنة الدولية لخبراء حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وآليات قانونية أخرى، بغض النظر عن المكاسب والاعتبارات السياسية. كذلك، يجب أن تُسهّل حكومات إثيوبيا وتيغراي وأطراف مؤثرة أخرى وصول الهيئات القضائية الدولية إلى المناطق التي شهدت أعمالاً وحشية.

لا تستطيع أي جماعة مسلّحة أن تفوز بالحرب. تعجز الحكومة عن التغلب على المقاومة المسلحة في مناطق مختلفة، بما في ذلك تيغراي، وقد وجدت "قوات دفاع تيغراي" وجماعات مسلحة أخرى في أوروميا صعوبة في إسقاط الحكومة حتى الآن. للخروج من المأزق الراهن، تقضي الطريقة الوحيدة بإطلاق المفاوضات والاستفادة من وساطة طرف ثالث يستطيع التأثير على المعسكرَين معاً، مثل الولايات المتحدة، وطلب المساعدة من القادة الأفارقة وجهات دولية جديرة بالثقة.

استعداداً لهذا النوع المعقد من المفاوضات السياسية، قد تبرز الحاجة إلى عقد اتفاق إطاري بين مختلف القوى السياسية لاستكمال الدستور الراهن والاستعداد لتنظيم استفتاء خاص بتيغراي وإجراء انتخابات تنافسية حقيقية في أجزاء أخرى من البلد. لكن يجب أن يضمن هذا الاتفاق وقف إطلاق النار بين الجماعات المسلحة وترسيخ مظاهر التعايش وسط شعوب إثيوبيا المتنوعة. لتحقيق هذا الهدف، يُفترض أن يطرح المجتمع الدولي أولاً آلية جديرة بالثقة لسحب الجيش الإريتري من إثيوبيا بطريقة سريعة ويسهل التأكد منها، ولسحب قوات أمهرة من تيغراي.

أخيراً، يمكن تسهيل المصالحة عبر إعادة النازحين داخل تيغراي واللاجئين عموماً إلى مناطقهم، ومساعدتهم على استرجاع منازلهم وأراضيهم وأعمالهم وأملاكهم. من دون تقديم التعويضات للضحايا ومحاسبة مرتكبي الجرائم المشينة، لا يمكن مداواة جروح الناس أو إرساء سلام دائم.


MISS 3