جوزيفين حبشي

لَيك هالحكي

الزمن ليس وحده الضائع

31 آذار 2022

02 : 00

لن أدخل في دهاليز حسابات بعض شركات الإنتاج الدرامي في لبنان، ولن أتساءل لماذا تفضل تقديم مسلسلات تطول وتغرق في التكرار واللامنطق، وهل هي أوفَر نفقة وأكثر ربحا لها أم لا. ما يهمني انا كمشاهِدة، هو الاستمتاع بمسلسل متقن بقصته واخراجه وتمثيله، محبوك جيداً، يثير الاعجاب، لا الاستهجان والسخرية والملل.

مناسبة هذا الحديث؟ بعد مسلسل "رصيف الغرباء" الذي طال على مدى 138 حلقة، وأعاد المشاهدين الى الوراء زمنياً، والدراما الى وراء الوراء فنياً، تعيدنا مجدداً الشركة المنتجة "فينيكس بروداكشن" لصاحبها المنتج والمخرج إيلي معلوف، الى "الزمن الضائع". مسلسل من اخراج ماريانا صقر وتأليف غابي مرعب ومن بطولة فادي ابراهيم، جو صادر، جوي هاني، أسعد رشدان، هيام أبو شديد وغيرهم. عادة افضّل التريث قبل إبداء الرأي في مسلسل في حلقاته الأولى، ولكن ما شاهدته كاف للاقتناع بأن الحلقات الـ70 ستضيّع وقت المشاهدين بالايقاع والمنطق شبه الضائعين بالكامل. تريدون مثلاً؟ في الحلقة الأولى، دكتور رأفت طبيب قلب (نعم طبيب قلب) يعاني منذ الصباح من ألم حاد في صدره، مما يجعلنا نحن المشاهدين الذين لم ندرس الطب يوماً، ندرك انه مقبل على ازمة قلبية، اما هو فيكتفي بالشك. ورغم ذلك لا يطلب الإسعاف، بل يقوم بعدة اتصالات قبل ان يخرج من الفيلا، ويتبادل الحديث مع سائقه وصديقه، ثم يخبره بسر خطير، ثم يقود السيارة بنفسه رغم الالم في صدره، ويرفض ان يوصله سائقه الى المستشفى. على الطريق يزداد الألم، الى أن تفاجئه على حين غرة ومن دون أن ينتبه، الازمة القلبية . في الحلقة الثانية ننتقل الى غرفة العناية الفائقة، حيث يتجمهر حوله الاطباء ، ونفهم انه في حالة غيبوبة. يخرج الاطباء ويتركون عنده ممرضاً، مهمته أن يراقب بشكل متواصل وعلى طرق النّفَس، جهاز الومنيتور الموصول به، ويسجل على دفتر بين يديه، ما يظهره الجهاز. قريبة المريض تقول للطبيب "كبّر عقلك دكتور، الزلمي ميّت وشبعان موت"، فيجيبها " لأ، بعد فيه حياة" و"بفضّل نعطيه وقتو ونضل نراقبو، ممكن يفيق من الكوما ويصير احسن مني ومنك". لاحقاً يتعرض المريض لأزمة قلبية جديدة. يهرع الطبيب. تبقى القريبة خارج الغرفة تراقب من خلف الزجاج. يطلب الطبيب جهاز صدمة القلب الكهربائية، يخرج الطبيب المساعد بسرعة لجلبه فالوضع حرج. في الخارج تستوقفه القريبة لتسأله عن وضع المريض، فيتوقف طبعاً، ويأخذ نفساً عميقاً ويهز برأسه بقلق ويخبرها أن الوضع خطير، والأفضل أن تنتظر في الخارج، و"على شوي" كان سيقول لها لا تخافي وسنقوم بما يلزم ولندعو له ليقوم بالسلامة لأنه انسان رائع ولا يستحق سوى كل خير، قبل أن يتابع طريقه لجلب الجهاز. يحمل الطبيب الجهاز ويقول بالحرف الواحد:

يلا، واحد، اثنان، ثلاثة، "a vos marques", "prets, partez" قبل ان ينطلق في سباق مع الوقت لإنقاذ القلب واعادته للخفقان. ينظرون كلهم نحو المونيتور، فيقول الطبيب المساعد "ما تغيّر شي"، (وكأننا لن نفهم في حال أعاد الكرة من دون قول هذه الجملة) ليستعد الطبيب مجدداً و" يلا، واحد، اثنان، ثلاثة"، وعندها يصرخ الممرض بفرح "يقبرني ربك دكتور رأفت، رجع القلب يشتغل بشكل طبيعي". حاصلو، وبلا طول سيرة، على مدى عدة حلقات، غرفة العناية الفائقة التي لا يجب أن يدخلها احد، ستظل ممتلئة بالزوار، وبأحاديث عن وضع المريض فوق رأسه، وهل سينجو؟ و"هيدا أصعب جواب" وما الخطوة الثانية؟ هل يجب ايقاف العلاج في حال لم يستيقظ او ماذا؟ وهل يجب استدعاء ابنته، و... ماذا أيضاً؟ نعم، اليكم حدث جرى فعلاً، وهو حالة شغب وفوضى في حبس رومية، وقيام المساجين بإحراق العنابر. في المسلسل، وبينما أجهزة التلفزة تنقل الشغب مباشرة ، يجلس المساجين في احد العنابر الذي لا يبدو عليه انه تعرض لأي مكروه في ديكوره ،وهم يتناقشون (كأنهم يسمّعون درسهم)، فنفهم منهم أن الحريق انتهى والانقلاب فشل.

ما يجري في بعض الدراما المحلية من فشل ليس مقبولاً ولا معذوراً، والفن رسالة وليس وسيلة لتضييع الوقت والذوق، والأهم انه ليس رواية سنكتشف احداثها من حوارات الممثلين. وانطلاقاً من هنا سأسمح لنفسي أن اقدم لبعض شركات الإنتاج اللبنانية نصيحة، وهي أن زمن المسلسلات التلفزيونية الطويلة (سوب اوبرا) لم يعد على الموضة اليوم، والرائج حالياً هو المسلسلات القصيرة (بين 8 او 15 حلقة وماكسيموم 30 في شهر رمضان) المحبوكة جيداً والواقعية والمنطقية بأحداثها والسريعة بايقاعها وعرضها للاحداث من دون ملل ورتابة وإعادة وتمغيط. لذلك، نرجو من الشركات أن تضع ميزانياتها الصغيرة والمتواضعة على عدد حلقات مختصر، رأفة بالعمل وجودته وبأعصاب الجمهور ووقتهم وذوقهم الفني الذي من مسؤولية تلك الشركات رفعه وتحسينه لا الإساءة اليه.


MISS 3